ماذا ستفعل عودة ترامب بالسياسة الخارجية لواشنطن؟


وجاء في المقال الذي كتبه بيتر فان بورين والمنشور على موقع الجريدة:

سترث الإدارة القادمة للبيت الأبيض عن بايدن وهاريس قوة ردع عالمية ضعيفة، مع حروب كبرى في قلب أوروبا وفي نقاط ساخنة بالشرق الأوسط، بما في ذلك هجوم إسرائيل على الأراضي اللبنانية مرة أخرى للمرة الأولى منذ عام 2006. وأصبحت إيران أقرب ما تكون إلى عتبة الدولة النووية، ولم يتحدث أحد مع كوريا الشمالية منذ 4 سنوات طويلة، والقوات الأمريكية متواجدة على الأرض في إسرائيل.

إقرأ المزيد

كذلك ازدادت الاستفزازات الصينية في آسيا، في الوقت الذي تتسم فيه سياسات جو بايدن تجاه الصين بالعدائية وغير العملية والخطيرة بشكل غير ضروري. لقد تم إعادة رسم الصين بشكل مصطنع بوصفها العدو داخل الصندوق في الوقت الذي تتعثر فيه حروب مكافحة الإرهاب. يتصور بايدن الصين كعدو استبدادي للديمقراطية لشن صراع عالمي ضده، حيث قال: “في عهدي، لن تحقق الصين هدفها لتصبح الدولة الرائدة في العالم، وأغنى وأقوى دولة في العالم” (وكأن الصين تطلب الإذن بذلك.)، ومضى بايدن في زعمه بأن العالم عند نقطة تحول لتحديد “ما إذا كانت الديمقراطية قادرة على العمل في القرن الحادي والعشرين أم لا”. وفي وجهة نظر بايدن التي تقتفي أثر رؤية ونستون تشرشل، فإن الولايات المتحدة، ومن يتبعها من العالم الحر بأسره، في مباراة موت مع الصين من أجل قلوب وعقول العالم.

ولكن، ماذا عن أوباما؟ لقد شهدت إدارته الغزو الروسي الناجح لشبه جزيرة القرم دون رد فعل أمريكي يذكر، والوجود المزعج للجيش الأمريكي في الشرق الأوسط، بما في ذلك توسع القوات الأمريكية في القتال بليبيا وسوريا واليمن وغيرها من الأماكن. وبرغم هذا، عانى العالم من صعود تنظيم الدولة الإسلامية والهجرة الفوضوية إلى أوروبا. كما شنت إدارة جورج دبليو بوش حربين كاملتين من اختيارها دون أي استراتيجية لتحقيق النصر، الأمر الذي أدى إلى تدمير مصداقية الولايات المتحدة أعقاب الأحداث المدمرة التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر والتي فشلت في إيقافها وأسفرت عن موت الملايين.

من ناحية أخرى، شهدت السياسات الخارجية لترامب تقاسما أوسع للتكاليف داخل حلف “الناتو”، وإن كان ذلك على حساب تعرضه لانتقادات كاذبة حتى يومنا هذا بسبب تهديده بالتخلي عن التحالف. فقد سحبت الولايات المتحدة معظم قواتها من العراق وأفغانستان في الوقت الذي اتخذ فيه ترامب خطوا للوفاء بوعده الانتخابي بإنهاء الحروب التي لا تنتهي والتي يخوضها المحافظون الجدد. إلا أن الأمر الأكثر أهمية هو أن ترامب لم يبادر إلى إشعال أي صراعات جديدة في المنطقة، كما فعلت كلينتون في الصومال وأوباما وبوش في كل مكان آخر.

لقد وفرت اتفاقية الدوحة مع “طالبان” استراتيجية لخروج الولايات المتحدة من أفغانستان، على الرغم من سوء تنفيذها من قبل إدارة بايدن. كما أدت الاتفاقيات الإبراهيمية، وهي سلسلة من صفقات التطبيع، إلى خفض للتوترات في الشرق الأوسط، وتم القضاء على خلافة “داعش” في العراق، ومن الغريب أن ذلك تم بمساعدة غير معلنة من الإيرانيين. وللمرة الأولى منذ عقود، كانت هناك إمكانية ضئيلة للغاية لإحراز تقد مع كوريا الشمالية حيث أصبح ترامب أول رئيس في السلطة يلتقي بزعيمها (وقد سخر منه الديمقراطيون بسبب ذلك).

إقرأ المزيد

على حد تعبير مجلة “فورين بوليسي” Foreign Policy فإن “النتائج مهمة، والسلام النسبي والازدهار الذي ساد خلال فترة ولاية ترامب الأولى قد يجعلانه الرئيس الأكثر فعالية في السياسة الخارجية الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة”.

وبالنسبة للفترة الرئاسية الثانية لترامب، فإن إنهاء الحرب بأوكرانيا يشكل الأولوية القصوى، حتى أنه وعد بإنهائها في الأشهر ما بين إعادة انتخابه، نوفمبر، ويوم التنصيب في يناير. ورغم أن هذا الجدول الزمني قد لا يكون ممكنا (لأن ترامب المواطن، من بين أمور أخرى، سوف ينتهك قانون لوغان بممارسة الدبلوماسية نيابة عن الولايات المتحدة)، فإنه يكشف بوضوح تام أن ترامب لن يستمر في تغذية مفرمة اللحم خارج كييف بالأسلحة والمال، والتي يبدو أنها لا تسفر عن أية نتائج إيجابية.

وسواء كانت لديه علاقة خاصة مع بوتين أم لا، فإن ترامب سيغير السياسة بشكل جذري من خلال فتح جولات من الدبلوماسية مع روسيا، فيما تبدو الأخيرة في هذه المرحلة ناضجة للمناقشات، وترى أن جهودها لإحراز تقدم على الأرض داخل أوكرانيا لا تؤدي إلى أي شيء. وكما هو الحال في معظم الحروب غير الحاسمة، فإن اتفاق “السلام” الناتج سيكون فوضويا. فلا سبب يدعو روسيا للانسحاب من الميدان خالية الوفاض، ولا شك أن أوكرانيا ستضطر إلى التنازل عن الأراضي، ربما تحت ستار “المناطق العازلة التي تسيطر عليها روسيا” أو بعض المصطلحات الذكية الأخرى. ولا أحد يستطيع أن يقول ما هي التكلفة التي تكبدها كل جانب من الرجال والدولارات، لكنها كانت كبيرة، وبالتالي خالية من الإباحية القومية لإدارة بايدن حول “شعب أوكرانيا الحر”، ومن المرجح أن يتم التوصل إلى نوع من الصفقة، وسيجعل الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون الأمور تتحرك بشكل أسرع.

ومع الصين، قد يختار ترامب تحسين ظروف الصراع وتحويله إلى منافسة، اقتصادية في المقام الأول، بين منافسين وليس مجرد حرب عالمية ثالثة. وقد استثمرت تايوان بين عامي 1991-2022 في الصين نحو 200 مليار دولار، وهو مبلغ أكبر حتى من استثمار الصين في الولايات المتحدة، فيما تظل الصين أكبر شريك تجاري لتايوان. ولم يحافظ مبدأ “دولة واحدة ونظامان” على السلام لعقود من الزمان فحسب، بل أثبت أنه مربح للغاية لجميع الأطراف. وكما قال دينغ شياو بينغ عن هذا النوع من التسوية المؤقتة: “من يهتم بلون القطة طالما أنها تصطاد الفئران؟” وقد تسعى الصين ذات يوم إلى شراء تايوان، ولكن حتى ذلك الحين، لماذا تسقط القنابل على أحد أفضل عملائها؟ حتى انها دعت تايوان إلى دورة الألعاب الأولمبية في بكين وشاركت معها في باريس.

إقرأ المزيد

وأي عنف عبر المضيق من شأنه أن يؤثر أيضا على العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وهو حافز آخر ضد الحرب. ويبلغ إجمالي الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة أكثر من 145 مليار دولار. وعندما أغلقت جائحة “كوفيد” الخدمات اللوجستية العالمية، تعلّم الجميع أن الاقتصاد الأمريكي يعتمد على التصنيع الصيني والعكس صحيح، فيما تعد الصين ثاني أكبر حامل أجنبي لديون الحكومة الأمريكية. وإذا تداخل شيء ما مع كل هذه التجارة، فسيتعين على الصين إيجاد طريقة لأكل أجهزة آيفون غير المكتملة. وبصرف النظر عن التهديدات العرضية، فإن الصينيين يراهنون حرفيا على استمرار المشاركة الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وليس الحرب على بعض الجزر الصغيرة البائسة في بحر الصين الجنوبي.

ولنتأمل هنا كيف سيتمكن ترامب، اعترافا منه بالصراع الاقتصادي، من الحفاظ على التعريفات الجمركية التي فرضها على الصين وقام بتوسيعها جو بايدن. ستواصل الولايات المتحدة بناء قواتها البحرية في المحيط الهادئ من خلال التعاون الاستراتيجي مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وربما الهند (أعادت القيادة الأمريكية في المحيط الهادئ تسمية نفسها بالقيادة الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ). والواقع أنه إذا كان ترامب يريد حقا ممارسة الضغوط على الصين، فإنه لا بد وأن يوسع علاقاته مع الهند، أكبر دولة ديمقراطية في العالم. وفي شرق آسيا، لم يؤد إصرار ترامب على تقاسم الأعباء مع كوريا الجنوبية واليابان، كما أعربت “بوليتيكو” عن قلقها في ذاك الوقت، إلى “دفع العلاقات الثنائية إلى نقطة الانهيار”، بل على العكس، نجح في تحقيق هدفه.

ولن يكون من المستغرب أن يحاول ترامب إعادة العلاقات مع كوريا الشمالية، فقد اقتربت جهوده الوليدة إلى حد كبير من أن تستحق جائزة نوبل للسلام، وهو أمر واضح في ذهن ترامب. وتقليل التهديد النووي ضد اليابان وكوريا الجنوبية، فضلا عن إضعاف قيمة كوريا الشمالية كدولة عازلة للصين في شرق آسيا، كلها أهداف تستحق السعي لتحقيقها. وقد امتنعت كوريا الشمالية عن اختبار الأسلحة النووية خلال “السنوات الأربع” من ولاية بايدن (أجرت كوريا الشمالية آخر اختبار لسلاح نووي في عام 2017)، ربما كإشارة إلى أنها لا تزال على استعداد للتحدث مع أي مبادر إذا كان لديه الشجاعة الكافية لطرق الباب.

وأظهر نقل ترامب للسفارة الأمريكية إلى القدس استعداده للقيام بخطوات دبلوماسية ضد رغبات تل أبيب، وقد يفعل شيئا مشابها مع غزة. لقد أرسل ترامب برقية إلى نتنياهو باستراتيجيته: افعل ما عليك فعله في غزة ولكن قم بذلك بسرعة وأعلن انتصارك. من الصعب تحديد الدور الذي سيلعبه بالرهائن، بما في ذلك ما يتعلق بالمواطنين الأمريكيين منهم، وهو ما يعقد الأمور. لقد رسخ بايدن، على نحو أساسي ومخز، اعتقادا بعدم وجود أمريكيين لإبعاد الولايات المتحدة عن أي دور قابل للتنفيذ. يمكن أن يسلك ترامب طريقا آخر، ويطالب خلف الأبواب المغلقة بالإفراج عن الرهائن الأمريكيين. وإذا بقي الرهائن، فسوف يحرر الجيش الإسرائيلي من الضغوط الدبلوماسية الأمريكية. نادرا ما يكون هناك سيناريو “مربح للجانبين” في الشرق الأوسط بشكل عام وفي الشؤون الإسرائيلية العربية على وجه التحديد، وهذه القضية ليست استثناء.

هذا يجعل من إيران نقطة جدل استراتيجية أخرى لم تمسها إدارة بايدن بشكل جوهري برغم دورها المتوسع في المنطقة ونفوضها العالمي. وتقول “فورين بوليسي” إن إدارة بايدن كانت تأمل في إبرام اتفاق نووي منقح مع إيران، ولكن عندما فشلت تلك المفاوضات في وقت مبكر، ترك الغرب بدون خطة احتياطية لوقف البرنامج النووي الإيراني. وقد انسحب ترامب في عام 2018 من الاتفاق النووي الذي تفاوضت عليه إدارة أوباما، تاركا فراغا في السياسة يحتاج إلى ملئه من قبل 47 نائب عارضوه بفعالية في فترة ترامب الثانية.

لقد ركزت فترة ترامب الأولى على عزل إيران، التي وصفها بأنها “الدولة الرائدة في رعاية الإرهاب”. من ناحية أخرى، لم يتطرق ترامب في حديثه إلى الصحفيين بمدينة نيويورك إلى التفاصيل حول ما قد يسعى إليه في أي اتفاق إذا أعيد انتخابه، لكنه قال إن المحادثات ضرورية بسبب التهديد الذي يشكله سعي إيران للحصول على الأسلحة النووية: “يتعين علينا التوصل إلى اتفاق، لأن العواقب مستحيلة. يتعين علينا التوصل إلى اتفاق”، فيما أعرب الرئيس الإيراني الإصلاحي الجديد عن رغبته أيضا في إحياء الاتفاق النووي.

والفشل في التعامل مع إيران سوف يستمر في جر منطقة الشرق الأوسط بأكملها إلى الهاوية النووية، وهو إرث ضعيف لولاية ثانية. ومن الأفضل لترامب أن يتذكر المثل الدبلوماسي القديم: إذا لم تتحدث مع خصومك، فسوف تسمع منهم بالتأكيد.

المصدر: The American Conservative

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
Comments (0)
Add Comment