وبرغم الأجواء الاحتفالية فإن الشكوك والحذر لا يزالان قائمين، بل وربما ينموان مع كل يوم يمر بعد الاجتماع الأول في الرياض. والتقلبات في السياسة الأمريكية جذرية للغاية وبالتالي غير مستقرة.
في الوقت نفسه، ثمة أسباب حقيقية للابتهاج، فالتغييرات في الموقف الأمريكي كبيرة للغاية، بما في ذلك التحول بـ 180 درجة عن مواقف الإدارة السابقة، لدرجة أنه يمكننا إذا أردنا أن نعلن انتصار روسيا على الأقل في أوكرانيا، ولن يكون ذلك بعيدا عن الواقع. علاوة على ذلك، يتطور الوضع الراهن وفقا لسيناريو مثالي لموسكو، من خلال المواجهة المتزايدة بين زيلينسكي وإدارة ترامب، التي أصبحت أوكرانيا في ظلها غير مستقرة داخليا بشكل متزايد مع اقتراب احتمال انهيار الجبهة.
وضبط النفس الاستراتيجي الذي ينتهجه بوتين قد أثمر أخيرا، والمواجهة مع الولايات المتحدة لم تصل إلى المستوى والشدة التي تجعل من دور ترامب مستحيلا.
لكن، دعونا نضع العواطف جانبا، ونحاول أن نتخيل السيناريوهات المحتملة للأحداث المستقبلية.
من الطبيعي أن المتغير الرئيسي هو استقرار إدارة ترامب، حيث أنه من غير الواضح إلى أي مدى يتمتع ترامب بالقدرة والرغبة في إيصال توجهاته إلى منتهاها. فهل كل تصريحاته الصاخبة حول أي قضية هي مجرد عنصر من عناصر المساومة والضغط، ومواقف متطرفة سيتراجع عنها أثناء المفاوضات؟ أو ما هو أسوأ، هل هي جزء من برنامج “شو” إعلامي لن يتم تحقيقه أبدا؟ والأهم من ذلك، كم من الوقت سيبقى ترامب في السلطة، وبأي صلاحيات؟
أعتقد أن الكرملين لا يستطيع ألا يطرح مثل هذه القضية بادئ ذي بدء في أي مفاوضات جادة مع واشنطن.
وبحسب استطلاعات الرأي، بدأت شعبية ترامب في التراجع، على الرغم من أن العواقب الاقتصادية السلبية لحروبه التجارية لم تقع بعد. وسوف تظهر بالتأكيد، وأنا شخصيا لا أشك في أنها ستكون صارمة، إذا كان ترامب ينوي حقا تغيير شيء ما وزيادة عدد وحجم الرسوم. لقد بدأ التضخم للتو في الارتفاع مرة أخرى (إلى 3%)، ولكن من المرجح أن يعود إلى قيم مزدوجة الخانات في غضون ستة أشهر إلى عام بعد تطبيق الحزمة الكاملة من الرسوم الجمركية.
وإذا استمرت الأمور على حالها المعتاد خلال عامين، فمن المرجح أن يخسر الجمهوريون السيطرة على الكونغرس في انتخابات التجديد النصفي، وستتحول إدارة ترامب إلى إدارة مشلولة وعاجزة. وفي غضون أربع سنوات سيخسر الجمهوريون السلطة، وفي سياق الأزمة الاقتصادية وتزايد الاستياء العام من أي حكومة، يبدو أنه لا بديل عن هذا السيناريو.
هناك عدد من الدلائل التي تشير إلى ان ترامب يدرك هذه المشكلة جيدا. وقد بدأت عملية تطهير في الجيش ووكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من أجهزة الأمن، والهدف من ذلك ليس التخلص من الأشخاص المتحولين جنسيا، ولكن ضمان الولاء الكامل، والاستعداد لتنفيذ كل الأوامر. وليست هذه هي المرة الأولى خلال أيام قليلة التي يلمح فيها ترامب إلى إمكانية البقاء في منصبه الرئاسي بصلاحيات غير محدودة. حيث قال نصا: “من ينقذ البلاد لا يخالف القانون”، ويستمر في التلميح إلى إمكانية الترشح لولاية ثالثة (سواء لنفسه أو لنائبه جي دي فانس).
ووفقا لهذا النموذج، أعتقد أن كل المفاجآت مع التحول الجذري في السياسة تجاه أوكرانيا ليست قضية علاقات أو صفقة مفترضة مع موسكو، بل أداة لمحاربة الدولة العميقة والديمقراطيين. فسرقة الأموال الأمريكية المخصصة لأوكرانيا يجب أن تصبح أداة لبدء حملة القمع ضد الديمقراطيين، وفي هذا الصدد، فإن زيلينسكي محكوم عليه بالإبعاد وعلى الأرجح بالسجن الأمريكي، حيث سيقدم الشهادة المطلوبة.
بالطبع، هناك تأكيدات تأتي من كل مكان بأن الاتصالات بين موسكو وواشنطن لم تتوقف، ومن الواضح أن تاكر كارلسون وستيف ويتكوف سافرا إلى موسكو خصيصا للمفاوضات، لكن يبدو لي في هذه المرحلة (وعلى الأرجح بشكل عام) أن التوصل إلى اتفاق مستبعد، فالتناقضات كبيرة للغاية. وبناء على ذلك، فإن سرعة التحول في موقف ترامب بشأن أوكرانيا وحربه المصغرة مع زيلينسكي صدمت موسكو نفسها، التي لم يكن لديها حتى الوقت للتعبير عن مجموعة مطالبها كاملة، وبدأ ترامب بالفعل في إغراق أوكرانيا طواعية. لكن، وفي إطار التفسير الذي أقترحه، فمن المنطقي أن يحتاج ترامب بشكل عاجل إلى رؤوس الديمقراطيين التي سيقدمها له زيلينسكي.
لكن أوكرانيا تافهة، بينما ستكون المباحثات الرئيسية بين موسكو وواشنطن حول موقف روسيا في الصدام المقبل بين الولايات المتحدة والصين. وهنا، وفي المقام الأول، لن يدور الحديث كثيرا عن أوكرانيا، بل عن أوروبا. على أقل تقدير، فيما يتصل بتحييدها في علاقتها بروسيا، وربما فيما يتصل بالسيطرة الروسية على أوروبا الشرقية على الأقل، وفيما يتصل بإنشاء منطقة أمنية عازلة. بل أود الذهاب أبعد من ذلك، بشأن إنشاء تكتل إقليمي مركزه موسكو، يمكن أن يضمن إلى حد ما الاستقلال التكنولوجي والاقتصادي وأي استقلال آخر لروسيا، بما في ذلك عن الصين، في العقود المقبلة. وبدون ذلك، فإن مخاطر التهدئة المحتملة للعلاقات مع الصين غير مقبولة على الإطلاق بالنسبة لموسكو. وإذا كان ترامب يقدر على نحو معقول المستقبل القاتم للولايات المتحدة، فعليه أن يرحب بإنشاء مثل هذا المركز، الذي سيساعده إن لم يكن على المقاومة، فعلى الأقل في موازنة القوة الساحقة المهيمنة مستقبلا: الصين. وما أقصده هو أنه لا يبدو لي من المستحيل أن يتنازل ترامب عن السيطرة على جزء من أوروبا على الأقل لموسكو. في الوقت نفسه، حتى لو لم تلتق موسكو بترامب في منتصف الطريق فيما يتصل بالقضية الصينية (وأنا أعتبر هذا الخيار هو الأكثر ترجيحا)، فإن الولايات المتحدة في المستقبل ستظل بحاجة إلى روسيا قوية. ليست قوية بما يكفي لتهديد الولايات المتحدة، لكنها مستقلة بما يكفي كي لا تكون جزءا من المحور الصيني.
ثانيا، بدون هذا لا يمكن أن تكون هناك نقطة أولى، وسوف تثار القضية مرة أخرى حول استدامة سياسات ترامب وطبيعتها على المدى البعيد. ومع تزايد تطرف وتقلبات ترامب غير المتوقعة، أصبح السؤال حول استمرارية مساره أكثر جوهرية.
وهكذا فإن منطق الأحداث، ومنطق الاستعداد للحرب مع الصين، ومنطق الصفقة المحتملة مع موسكو، ومنطق أي إصلاحات وخطط لترامب بشكل عام، يجعل مشكلة الحصول على السلطة المطلقة والحفاظ عليها المعضلة الرئيسية بالنسبة لترامب في هذه المرحلة. وليكن لمدة عشر سنوات، أو الأفضل من ذلك، لمدة أطول.
وقد أصبحت أوكرانيا وأوروبا والشرق الأوسط، وحتى روسيا وكل شيء تقريبا حولها، بالنسبة لترامب، أداة أو ساحة لحل القضية الرئيسية: قضية توسيع السلطة والحفاظ عليها.
وكما هو متعارف عليه، فإن الحرب الخارجية تشكل سببا وجيها لإلغاء الانتخابات والحصول على سلطات الطوارئ، وستكون إيران والصين أفضل خصمين بالنسبة لترامب.
إيران ضعيفة بما يكفي لضمان انتصار الولايات المتحدة، ولن يكون الأمر عبئا كبيرا، لكنها قوية بما يكفي بحيث لا تنتهي الحرب في ثلاثة أيام. إضافة إلى ذلك، فإن السلاح الخارق الوحيد الذي تمتلكه إيران، إغلاق مضيق هرمز، سيضرب في المقام الأول الصين وبدرجة أقل أوروبا، وهو ما يتوافق مع خطط ترامب.
أما الحرب مع الصين فهي أولا أمر لا مفر منه، وهي بالتأكيد سبب كاف لفرض سلطات الطوارئ وإلغاء الانتخابات لفترة غير محددة.
لذلك، ففي رأيي المتواضع، تبدو حرب الولايات المتحدة مع إيران ممكنة في غضون عام، أقرب إلى الانتخابات النصفية للكونغرس، بعد أو أثناء العملية الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، أما الحرب مع الصين فهي ممكنة في موعد لا يتجاوز ثلاث سنوات.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة “تلغرام” الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب