وبدأت أم كلثوم (كوكب الشرق)، مشوارها الفني مبكرا حيث إنها في العاشرة من عمرها شاركت ضمن فرقة والدها الإنشادية في إحياء الحفلات بقريتها والقرى المجاورة، إلى أن اتسعت شهرتها مع استقرارها في القاهرة بعد أغنية “الصب تفضحه عيونه” من كلمات أحمد رامي وتلحين أحد مكتشفيها الشيخ أبوالعلا محمد.
وعلى امتداد ما يزيد عن نصف قرن من حياتها الفنية، لم تؤثر أم كلثوم على أسماع المصريين فحسب، بل كان صوتها حاضرا بقوة وممثلا لقوة مصر الناعمة في فترات عصيبة، لعل من أبرزها ما تلى “يونيو 1967″، حينما أحيت حفلات بكثير من بلاد العالم وتنازلت عن أجرها لخدمة المجهود العسكري المصري في حرب الاستنزاف والاستعداد لمعركة التحرير واستعادة الكرامة والأرض.
رحلة موسكو ونهاية حزينة بفراق عبدالناصر
في جمعة خريفية باردة خلال شهر سبتمبر 1970، حطت للمرة الأولى طائرة مصرية تقل السيدة أم كلثوم بعاصمة الاتحاد السوفيتي موسكو، خلال زيارة سريعة لم يكتب لها أن تكون إحدى الرحلات التاريخية الخالدة في سجل أم كلثوم والمجهود الحربي.
صورة نادرة أم كلثوم وهي تجلس داخل عربة مترو الانفاق في موسكو عام 1970 يعني ركبت مترو الانفاق قبلي وقبلك #masrzaman pic.twitter.com/Y592V9dQ6y
— ✬ᕼᗩᑎᗩᑎ 卄𓂀 ᗴᘔᘔᗩT🏴☠️ (@EgyChampagne) February 4, 2014
ورغم تعدد المصادر ومواكبة الصحف والمجلات لتلك الرحلات الفنية التي بدأتها أم كلثوم عقب عدوان 5 يونيو 1967، ورغم حجم تلك الزيارة وأهميتها في نطاق التعاون المصري – السوفيتي الذي بلغ مداه طوال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فإن هذه الزيارة لم تلق هذا التوثيق والمتابعة المتوقعة لها، بسبب ظروفها العاثرة التي انتهت بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر في مساء يوم 28 سبتمبر 1970، وفقا لكتاب “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” لكريم جمال.
الانتصار بسلاح السوفيت والغناء في شوارع موسكو
وبالبحث عن جذور تلك الزيارة، نجد أنه في نهايات عام 1969، وعبر واسطة الكاتب سعدالدين وهبة أجرت صحيفة “البرافدا” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفيتي، حوارا مطولا مع السيدة أم كلثوم، إذ يروى سعد الدين وهبة تفاصيله، قائلا: “ذات يوم اتصل بي مندوب صحيفة البرافدا السوفيتية في القاهرة”.
وتابع: “قال المندوب إنه يريد أن يجري حديثا صحفيًا مع أم كلثوم، وأن البعض دله عليّ لأكون وسيطا في هذا الطلب؛ لأنه عرف أني أقابلها كثيرا، وأكتب قصة حياتها، وقابلتها في نفس اليوم وأبلغتها برغبة مراسل البرافدا، وسألتني عن أهمية البرافدا فشرحت لها قيمة الصحيفة في الاتحاد السوفيتي، وسألتني هل أجرت هذه الصحيفة أحاديث مع أحد في مصر؟، وأجبتها أعتقد أنها أجرت حديثا واحدا فقط مع الرئيس عبدالناصر، ووافقت أم كلثوم وطلبت مني أن أحضر مع المراسل يوم الثلاثاء القادم، وأبلغت الشاب الذي فرح فرحا شديدا، وطلبت منه أن يمر على بيتي لنذهب معا إلى بيتها”.
وبالفعل دار الحوار بين الطرفين بعدما حضر السفير السوفيتي بالقاهرة وزوجته حفل 4 ديسمبر 1969، الذي أقيم في دار سينما قصر النيل بداية للموسم الغنائي لعام 1970 ، فوجهت القيادة السوفيتية الدعوة إلى أم كلثوم، لكي تغني في أكبر مسارح موسكو وليس في شوارعها كما تمنت أم كلثوم في لقائها الصحفي.
وهذا ما حدث بحفلة أم كلثوم في موسكو، حيث تحطم الزجاج من قوة صوتها وصفائه، واصفا إياها بالمعجزة الفنية التي لن تتكرر ولم نسمع قبلها أو بعدها مثيلاً.♥️ pic.twitter.com/zfJSR29d6A
— سُلطان (@igsultan) February 8, 2019
ووجهت السفارة السوفيتية بمصر، دعوة للسيدة أم كلثوم بزيارة موسكو لمدة أسبوعين.
وتمهيدا للزيارة، أعد قسم الإعلام الخارجي في وزارة الثقافة بالجمهورية العربية المتحدة، كتيبا صغيرًا يقدم فيه السيدة أم كلثوم إلى الجمهور السوفيتي، واكتسى الكتيب بالروح السوفيتية في تصميمه خصوصا لونه الأحمر تعبيرا عن روسيا الحمراء والشيوعية السوفيتية.
تصدرت صورة أم كلثوم الكتيب، وتحديدا صورتها بفستانها الأسود الجميل ومنديلها الأبيض، وهي صورة التقطت لها في العام السابق وتحديدًا في ليلة إطلاق رائعتها “ألف ليلة وليلة” في 6 فبراير 1969، وبجوار الصورة حاولت وزارة الثقافة اختزال الحدث في كلمات قليلة بليغة تكشف حجم الحدث وضخامته فعنونت الكتيب بجملة قصيرة “أم كلثوم في الاتحاد السوفيتي”، وبجوارها الترجمة الروسية للجملة السابقة.
استقبال تاريخي
وفي تحقيق صحفي نشرته مجلة “الموعد” اللبنانية خلال شهر أكتوبر 1970، يصف الصحفي عماد فتوح محرر المجلة تفاصيل استقبال أم كلثوم، التي انتظرها عشرات المصورين الصحفيين ومئات من الطلبة العرب الذين يدرسون في العاصمة الحمراء، ووقتما أطلت “كوكب الشرق” من باب الطائرة الضخمة التي أقلتها من القاهرة إلى موسكو، حتى دوى التصفيق في ساحة المطار والشرفات، وفي كل مكان فيه متسع لإنسان، فقد كان المطار الكبير مكتظًا بالطلبة العرب الذين جاؤوا من موسكو التي تبعد 50 كيلومترا عن المطار؛ لاستقبال سيدة الغناء العربي.
كوكب الشرق أم كلثوم في موسكو – الاتحاد السوفييتي , سبتمبر سنة 1970 . لم تكتمل الزيارة بسبب خبر وفاة جمال عبد الناصر صور لها في البولشوي و المتاحف و في مترو موسكو و اثناء تلقيها نبأ وفاة جمال عبد الناصر قطعت الزيارة و رجعت الي مصر
1970 ом калсум ” в СССР ” pic.twitter.com/VFU02mGDaU— Рами Самари 🇪🇬🇵🇸🇷🇺 (@RamyElsemary) August 20, 2022
وما إن رأى الصحفيون السيدة أم كلثوم حتى انهالوا عليها بأسئلتهم: “ماذا وراء زيارتك إلى موسكو؟ وهل جئت من أجل الاستجمام فقط أم من أجل أن تغني للطلبة العرب الذين يدرسون في الاتحاد السوفيتي؟”.
جولة سياحية في تاريخ بلاد السوفيت
حاولت السفارة المصرية في موسكو أن تواكب ذلك الحدث وأن تكون على قدر المسئولية، وأن تعمل على تدعيم التعاون بين السلطات السوفيتية وبين السفارة من أجل نجاح الزيارة، وتحقيق الهدف المرجو منها، كما امتد الاهتمام السوفيتي والتعاون بينها وبين السفارة إلى تفاصيل أخرى بعيدا عن الجانب الفني للزيارة، حيث نوع الأطعمة والمشروبات المفترض تقديمها لأم كلثوم ومرافقيها والأماكن المقرر زيارتها.
كوكب الشرق أم كلثوم وابن شقيقتها المهندس محمد الدسوقي وبعض أعضاء فرقتها الموسيقية اثناء رحلتها الفنية في موسكو عام ١٩٧٠ والتي لم تتم بسبب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر .. pic.twitter.com/PzizAPqLmO
— الصفحة الرسمية لموقع الملك فاروق الأول – فاروق مصر (@king_faroukmisr) February 26, 2022
وحددت السلطات السوفيتية، أماكن بعينها يجب أن يتضمنها برنامج الزيارة مثل مترو الأنفاق والمكتبة الوطنية في موسكو، والمتحف التاريخي وغيرها.
ونظمت وزارة الثقافة السوفيتية، حفل استقبال رسمي للسيدة أم كلثوم، وأقامت السفارة المصرية حفلًا آخرًا حضره السفراء العرب ونجوم الفن والفكر والأدب من السوفيت.
المصدر: “الشروق”
إقرأ المزيد