وجاء في المقال المنشور على موقع “ذا ناشيونال إنترست”:
ليس بالضرورة أن يكون التعاون التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين مسايرا متكيفا، بل يمكن أن يحقق فوائد تنافسية للولايات المتحدة.
إن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي قد تخلق انقسامات خطيرة بين القوتين العظميين، وقد تؤدي إلى صراع عسكري إذا لم تتم إدارتها. وبرغم الحديث عن الانفصال بين الولايات المتحدة والصين، فإنهما لا تزالان مترابطتين اقتصاديا بأكثر من طريقة، ولن يستفيد أي من الجانبين من حرب مكلفة.
والتحدي النهائي الذي تواجهه واشنطن في هذه المنافسة، والذي يشبه إلى حد ما التحدي الذي واجهته الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي، هو الحفاظ على السلام مع بكين، مع عدم الخجل من الحفاظ على تفوقها التكنولوجي والاستفادة منه. وهو نهج قائم على شكل معدّل من شعار ريغان “السلام من خلال القوة”، والذي يمكن تسميته الآن “السلام من خلال الحافة”. وهناك متسع كبير للتعاون في هذه المنافسة، بما في ذلك من خلال الأطر اللازمة لإدارة التطوير المسؤول ونشر الذكاء الاصطناعي.
وبدلا من النظر إلى المنافسة باعتبارها لعبة صفرية، تستطيع واشنطن وبكين تعزيز الظروف التي تمكن ابتكاراتهما من دفع النمو الاقتصادي والزعامة التكنولوجية مع تجنب الإجراءات المزعزعة للاستقرار التي تهدد الرخاء في الأمد البعيد. ويمكن أن تكون المنافسة الاستراتيجية في مجال الذكاء الاصطناعي محركا قويا للتقدم إذا استرشدت بأطر مدفوعة بالسوق تكافئ الابتكار وتعاقب السلوك غير الآن أو غير المسؤول.
منافسة أوسع
إن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين على تطوير الذكاء الاصطناعي مستمرة ومن المرجح أن تشتد خلال السنوات القادمة. فهي في نهاية المطاف جزء من صراع أوسع وأكثر جوهرية بين قوتين عظميين تختلفان بشدة حول الكيفية التي ينبغي أن يبدو عليها النظام العالمي وكيف ينبغي للمجتمعات أن تحكم نفسها. ويرى كل جانب أن الهيمنة التكنولوجية أو الاكتفاء الذاتي جزء لا يتجزء من دعم رؤيته وأهدافه.
وفيما يتصل بالذكاء الاصطناعي، يسمح النموذج الأمريكي للشركات، بشكل عام، بالسيطرة على التنمية الصناعية والقضايا المتعلقة بالحوكمة دون فرض لوائح مرهقة تعوق الابتكار. أما النموذج الصيني، من ناحية أخرى، فهو بقيادة الدولة. ورغم أنه أيضا يعزز الابتكار، إلا أنه يخضع لسيطرة مركزية ويراعي مصالح وتفضيلات الحزب الشيوعي الصيني الحاكم.
من جانبها، تبدو الولايات المتحدة حريصة على مواصلة استهداف قطاع أشباه الموصلات في الصين. ومن الواضح أن أشباه الموصلات ضرورية لتطوير الذكاء الاصطناعي، حيث سعت واشنطن إلى الحد من تصدير معدات تصنيع الرقائق، وأدوات البرمجيات، والذاكرة عالية النطاق الترددي، على الرغم من الاضطرابات المحتملة التي قد يسببها هذا في سلسلة التوريد في جميع أنحاء العالم والمحادثات الصعبة مع حلفاء الولايات المتحدة (خاصة في آسيا) الذين قد يتأثرون (وفي بعض الحالات، تأثروا بالفعل) جراء هذه التدابير.
وفي ولايته الثانية، سيلغي الرئيس دونالد ترامب عددا من سياسات سلفه في الداخل والخارج. ومع ذلك، يتعين ألا يكون تحدي طموحات الصين في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال أشباه الموصلات أحد هذه السياسات. واقع الأمر، أن إدارة ترامب ستكون أكثر عدوانية تجاه التكنولوجيا الصينية وأشباه الموصلات وستفرض حظرا أو عقوبات أكثر صرامة على الصادرات، وتستهدف مزيدا من قطاعات صناعة التكنولوجيا الفائقة في الصين.
لكن الصين هي الأخرى ليست عاجزة أو تفتقد خياراتها، حيث تظل لاعبا رئيسيا في مجال الذكاء الاصطناعي وصناعة أشباه الموصلات العالمية. فهي تمتلك غالبية براءات الاختراع العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي (مع منح ما يقرب من 13 ألف براءة اختراع، برغم أن القليل منها مؤثر مثل براءات اختراع الولايات المتحدة)، وتكتسب نماذجها اللغوية اعترافا عالميا. وبرغم أن شركاتها التي تقودها الدولة تتخلف عن شركات رائدة مثل “إنفيديا” Nvidia لتصميم شرائح الذكاء الاصطناعي وASML لأدوات تصنيع الرقائق، فإن لعبة الصين تتمثل في استخدام ميزتها التنافسية في القدرة الهائلة للهيمنة على سوق العُقَد القديمة (تقنيات أشباه الموصلات القديمة)، والتي تستهدفها القيود الأمريكية بشكل أقل بكثير. كما تخطط الصين لزيادة استثماراتها في الإنتاج المحلي من خلال إطلاق صندوق أشباه الموصلات بقيمة 47 مليار دولار. إضافة إلى ذلك، ستواصل الصين التحايل على القيود الأمريكية باستخدام خدمات الذكاء الاصطناعي السحابية لاستغلال الثغرات في ضوابط التصدير على شرائح الكومبيوتر عالية الأداء.
البعد العسكري
لعل أكبر مصدر للقلق بالنسبة للولايات المتحدة في منافستها التكنولوجيا مع الصين هو قدرة الأخيرة على استخدام أشباه الموصلات المتقدمة لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي لديها وتطوير قدراتها العسكرية بشكل أكبر، لا سيما في مجال الروبوتات والأسلحة ذاتية التشغيل. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الحفاظ على الزعامة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي وتصنيع أشباه الموصلات يعتبر قضية تمس الأمن القومي. ومع ذلك، فإن الزعامة الحقيقية لا تأتي من تقييد السيطرة، كما هو الحال في النهج الأمريكي الراهن، بل من تعزيز الابتكار القائم على السوق والاستفادة بشكل مسؤول من المنافسة في القطاع الخاص لتشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي.
والولايات المتحدة والصين عازمتان على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الذكاء الاصطناعي لأسباب مفهومة. حيث أن الذكاء الاصطناعي، وبرغم أنه لا يغير الطبيعة الأساسية للحرب، قد أحدث ثورة في كيفية تعامل القوات العسكرية مع الحرب، بصرف النظر عما كانت تلك قوات نظامية أو غير نظامية.
والحكمة الرومانية القديمة الشهيرة تقول: “إذا كنت تريد السلام، فاستعد للحرب”. وهو ما يعني أن ضمان جاهزية القتال أمر بالغ الأهمية دائما. وهنا، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفعل العجائب، حيث يتطلب اتخاذ القرارات بشأن العمليات التكتيكية، أو هياكل القوة، أو الميزانيات كميات كبيرة من البيانات المتنوعة من عديد من الصادر المختلفة، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية، والتقارير الميدانية، وإحاطات الاستخبارات، ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي. وقد تكون معالجة وتحليل هذه البيانات ثم تقديم التوقعات عملية بطيئة وغير مؤكدة وغير فعالة. حينها يمكن للذكاء الاصطناعي أن يضيف السرعة والوضوح والكفاءة لهذه العمليات.
ومن خلال تحليل البيانات التاريخية جنبا إلى جنب مع المعلومات في الوقت الحقيقي real-time، يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد التهديدات المحتملة قبل أن تتحقق بالكامل، فضلا عن توليد استجابة لمثل هذه التهديدات. وتعد هذه القدرة على الإنذار المبكر ذات قيمة خاصة في الفضاء الإلكتروني، حيث تتعلم أنظمة الذكاء الاصطناعي باستمرار من الهجمات السابقة لتعزيز الدفاعات الرقمية. على سبيل المثال، فكر في كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لمثل هذه العمليات في التدريب العسكري. وتقوم الجيوش في جميع أنحاء العالم الآن بدمج برامج التدريب التي يقودها الذكاء الاصطناعي والتي تحاكي سيناريوهات القتال المتقدمة، ما يوفر للأفراد المهارات اللازمة للعمل بشكل فعال في بيئات معقدة.
إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في ساحة المعركة ليست نظرية أو طموحة. بل هي حقيقية وتحرك ديناميكيات تكتيكية واستراتيجية حالية. ولنتأمل الصراع في أوكرانيا أو حرب إسرائيل ضد “حماس” و”حزب الله”، وكيف اعتمد الأسطول الخامس الأمريكي مؤخرا على الابتكار التكنولوجي والذكاء الاصطناعي لمواصلة مهمته في مجال الأمن البحري.
وقد لعب الذكاء الاصطناعي دورا فعالا في الصراع الأوكراني، حيث سمح لأوكرانيا بمعالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات المتعلقة بموقع وقدرات القوات الروسية بسرعة ودقة أكبر. كما اعتمدت إسرائيل نفسها بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي لتحديد أهداف “حماس” و”حزب الله”. ومن خلال برنامج يسمى “لافندر” Lavender، تمكنت الوحدة 8200 التابعة للجيش الإسرائيلي من إنشاء قاعدة بيانات كبيرة من الأفراد الذين يمكن أن يكونوا أعضاء في “حماس” و”حزب الله”. ويمكن لنظام دعم القرار القائم على الذكاء الاصطناعي المسمى “الترنيمة” The Gospel تحديد البنية التحتية المادية التي يمكن للمتشددين استخدامها. كما استخدمت إسرائيل طائرات مسيرة للقتال في الأماكن المغلقة لاستهداف الأفراد في غزة ولبنان، وبعد الاشتباك، لتأكيد مقتلهم.
لقد كانت أتمتة جوانب جمع البيانات ومعالجتها أمرا لا يقدر بثمن في المجال البحري. على سبيل المثال، استخدمت القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية، وهي الفرع البحري للقيادة المركزية الأمريكية، الذكاء الاصطناعي لتأمين المياه الإقليمية الواقعة تحت مسؤوليتها. وكانت فرقة العمل 59 في طليعة هذا الجهد، حيث عززت وعيها بالموقف من خلال أنظمة مسيرة بمساعدة الذكاء الاصطناعي من خلال إنشاء وتحديث صور تشغيلية في الوقت الحقيقي مستمدة من أجهزة استشعار متعددة.
عودة ضبط الأسلحة
إن الذكاء الاصطناعي يشكل العمود الفقري للتكنولوجيات العسكرية الناشئة، مثل الأسلحة ذاتية التشغيل، والحرب السيبرانية، وأنظمة المراقبة. وبطبيعة الحال، أدت الوتيرة السريعة لتطوير الذكاء الاصطناعي إلى إشعال سباق تسلح بين الدول، ما أدى إلى زيادة التوترات والاحتكاكات على الساحة العالمية. ومع إطلاق كل إنجاز بحثي دفعة كبيرة في القدرات، فإن التقلبات الناتجة عن ذلك من شأنها ان تزعزع استقرار قنوات الحكم التقليدية، ما يفرض على السلطات الوطنية أن تتكيف مع أقرانها أو تخاطر بالتخلف عن الركب.
ولمعالجة هذه التحديات، تستطيع الولايات المتحدة أن تقود عملية إنشاء أطر عمل مفتوحة المصدر ومسؤولة للذكاء الاصطناعي، والاستفادة من المعايير القائمة على الإنترنت لإنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي شفافة وأخلاقية وقابلة للتشغيل المتبادل. والطبيعة اللامركزية لهذه المعايير والبروتوكولات تعني أنها مدفوعة بالسوق بطبيعتها، وهو ما يتطلب الالتزام بالقيم الاقتصادية والثقافية الليبرالية التي نراها في الغرب. وتخلق هذه المفارقة المتمثلة في التنمية المفتوحة في مواجهة المنافسة المتزايدة بين المجموعات المماثلة ميزة غير متكافئة للولايات المتحدة ونظيراتها في العصر الجديد للتصنيع الرقمي.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد اختارت تبني منهجيات حوكمة جديدة مع الاستفادة من الأنظمة الموزعة وتصميم دفاتر الحسابات القابلة للتدقيق، فسيتم بناء هذه البروتوكولات بحيث تكون مرنة، ما يضمن التوافق الدائم مع قيادتها التكنولوجية الخاصة. لتضع الولايات المتحدة، من خلال دفع تبني هذه الأطر المفتوحة المصدر في جميع أنحاء النظام العالمي، أقرانها وأنظمتها البينية في وضع افتراضي عالمي، يعزز النفوذ الذي يقوده الغرب مع ضمان التطوير المسؤول للذكاء الاصطناعي.
ورغم ان التعاون مع الصين في مجال الذكاء الاصطناعي قد يبدو مسايرا متكيفا بالنسبة للبعض، فإن الولايات المتحدة، مع ذلك، تكتسب ميزة كبيرة من خلال التحكم في بنية هذه الأطر. وتضمن معايير المصدر المفتوح لا قابلية التشغيل البيني وقابلية التوسع فحسب، بل تسمح كذلك للشركات الأمريكية بالاستفادة من أسواق أكثر عدالة وحقوق ملكية أقوى. وتمكن هذه الاستراتيجية الولايات المتحدة من تثبيت استقرار انتشار الذكاء الاصطناعي مع استخدام ستار التعاون لتعزيز هيمنتها التكنولوجية والجيوسياسية.
المصدر: The National Interest
*ناتاشا أحمد مستثمرة في تكنولوجيا الدفاع وأحد القادة في شركة Epirus. وتعمل عضوا في مجلس إدارة جمعية القوة الفضائية، فرع واشنطن.
**بلال صعب هو كبير المديرين الإداريين لشركة TREND US، وهو زميل مشارك في معهد تشاتام هاوس، وأستاذ مساعد في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون.
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب