بين مخاوف العرب وصراعات الإقليم.. هل تنجح “سوريا الجديدة” في كسب الرهان؟”




واختبار الحكومة يتعلق في الوفاء بالوعود التي ألزمت نفسها بها، والمتمثلة في ألا تكون دمشق بحلتها الإسلامية الجديدة مصدر تهديد لجيرانها أو للمجتمع الدولي، الذي يبدو متشككاً من تجربة الإسلام السياسي في الحكم، رغم دفعه باتجاه الوصول إليه في أكثر من بلد.
ومع ذلك، فإن الخوف من تصدير “الفتح الإسلامي” لدمشق إلى بلدان عربية أخرى قد لا يكون السبب الوحيد في حالة الانفتاح الحذر لبعض هذه الدول على العاصمة السورية، ومحاولة فهم آلية تفكير قادتها الجدد الذين بدؤوا قبل أيام قليلة في الاعتياد على ارتداء ربطة العنق. إذ لا يمكن تجاهل المصالح الاقتصادية المهمة لهذه الدول في بلد شبه مدمر مثل سوريا، التي تحتاج إعادة إعمارها إلى تقاطر الشركات العربية والأجنبية إليها، وهو الأمر الذي بدأت ملامحه تظهر من خلال مساعي بعض الدول للعمل ضمن قطاعات اقتصادية محددة في سياق تقديم المساعدة الإنسانية للشعب السوري.
فكيف سيرسم العرب، ومعهم الإقليم والغرب، مسار سياستهم تجاه سوريا؟ وكيف سيدير الحكم الجديد في دمشق دفة سياسته الخارجية مع بلدان لا يزال معظمها يعيش صراعاً غير معلن فيما بينها خارج الجغرافيا السورية، وربما داخلها؟
على ضوء الاختبار
تلقت دمشق دعماً كبيراً وجلياً من خلال البيان الصادر عن الاجتماعات الوزارية التي عقدت مؤخراً في الرياض بمشاركة عربية ودولية بارزة، حيث أكد المجتمعون على أهمية دعم سوريا ورفع العقوبات الاقتصادية عنها.
وبدا وزراء الخارجية العرب المجتمعون في الرياض أكثر رغبة وعجلة من نظرائهم الغربيين في رفع العقوبات عن دمشق، وتمكين شعبها وقيادتها الجديدة من ممارسة دورهم المنوط بهم في بلد وجب أن يعيش حياة طبيعية بعد سنوات الصراع المريرة.
وفي هذا السياق، فإن الدول العربية تحاول بناء علاقات إيجابية مع إدارة الحكم الجديد في دمشق، حيث بادرت معظمها إلى إجراء الاتصالات بها واستقبال وفودها، وصولاً إلى الدعوة الصريحة إلى رفع العقوبات عن سوريا لانتفاء أسبابها الموجبة بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد.
ويبدو أن العرب، رغم إصرارهم على عدم التفكير بعقل قومي جامع يحاول الحد من النفوذ التركي والإسرائيلي المتزايد والمهيمن في سوريا، إلا أن كل دولة عربية على حدة تحاول مقاربة العلاقة مع دمشق من زاوية مصلحتها ومخاوفها الذاتية. حيث تخشى الدول العربية، وعلى رأسها القاهرة والرياض وأبوظبي، من تنامي شعور الجماعات الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين، بالقوة بعد سيطرتها على دمشق وتبني النموذج التركي الجذاب شعبياً بالنسبة للشعوب العربية. الأمر الذي يدفع هذه الدول إلى التقارب الحذر مع دمشق ومحاولة التسلل إلى عقول قادتها الجدد وفهم آلية تفكيرهم، وصولاً إلى إبرام تسويات قد لا تكون معلنة معهم، تتصل برسم حدود تأثيرهم على المشهد الإقليمي مقابل التعهد بالمساهمة الفعالة في استقرار سوريا أمنياً واقتصادياً، والسماح بتدفق الشركات العربية إليها للمساهمة في إعادة الإعمار ونيل حصة وازنة منه، تقطع على تركيا أكل الكعكة السورية برمتها.
السعودية: دور ومخاوف
أدركت حكومة الشرع في سوريا مبكرا خطورة عدم أخذ مخاوف الدول العربية من سياساتها الحالية والمستقبلية بعين الاعتبار، فبادرت إلى طمأنتها وبث رسائل تطمين لها، وهو ما تجسد في حديث الشرع نفسه عن مكانة المملكة العربية السعودية ودورها الكبير في سوريا والمنطقة.
وسيرت السعودية إلى دمشق مساعدات إنسانية عبر جسرين بري وجوي يحملان مواد غذائية وإيوائية وطبية، في مسعى منها للتخفيف من وطأة الأوضاع الصعبة التي يمر بها الشعب السوري.
وأكدت الرياض أن هذه المساعدات ليس لها “سقف محدد”، إذ سيبقى الجسر الإغاثي مفتوحاً حتى تحقيق أهدافه على الأرض هناك باستقرار الوضع الإنساني، وفق توجيهات القيادة السعودية للتخفيف من معاناة المتضررين.
وتخشى الرياض من تهديد الإرهاب الذي يمكن أن ينجم عن الفراغ الذي تحتاج الحكومة الجديدة في دمشق إلى مزيد من الوقت لتغطيته، كما تخشى من عدم القدرة على احتواء التطورات الكبيرة في حال أخذت شأناً متدحرجاً ومتسارعاً يمكن أن يؤثر على التوازنات الإقليمية، بما في ذلك نشاط حركة الإخوان المسلمين في الأردن، والتي تعدها المملكة منظمة إرهابية، فضلاً عن فتح شهية الجهاديين في السعودية على التحرك، ووضع ملفها الخاص بحقوق الإنسان بالتالي تحت المجهر الدولي مجدداً. فيما لا يزال يشغل بال الرياض مساعي أنقرة المنتصرة في سوريا لمزاحمتها على زعامة العالم الإسلامي، واستغلال إسرائيل لما يجري من أجل قضم المزيد من الأراضي العربية والتحول إلى القوة الأبرز في الإقليم، كما تخطط واشنطن لذلك.
الإمارات: هواجس مشابهة
وأبدت الإمارات العربية المتحدة دعمها لوحدة وسيادة الأراضي السورية، وحق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه، كما يعول السوريون كثيراً على الدعم الإنساني الذي طالما واظبت أبوظبي على تقديمه للشعب السوري، وخصوصاً أثناء الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا.
بيد أن الإمارات العربية المتحدة لا تزال تبدي موقفاً أكثر تحفظاً، وإن بقيت خطوط التواصل مع دمشق مفتوحة ومرشحة للتطور يوماً بعد آخر. وهي تتقاطع مع السعودية في هواجسها من تهديدات الإرهاب نتيجة غياب الاستقرار في سوريا، وصعود النفوذ التركي، وتجدد مشروع الإخوان المسلمين الذي بقيت أبوظبي رأس حربة في محاربته، فضلاً عن الخشية من الأطماع الإسرائيلية في المنطقة العربية واستمرار التوترات الناتجة عن ذلك.
مصر: دعم لوحدة سوريا وتخوف من تكرار التجربة
أما مصر، التي لفظت تجربة الإخوان المسلمين القصيرة في الحكم وتخشى من عودتهم مجدداً بعد سيطرة الفصائل الإسلامية في سوريا، بما يهدد أمنها القومي المرتبط تاريخياً بأمن الشام، فقد دعا وزير خارجيتها بدر عبد العاطي إلى تكاتف المجتمع الدولي للحيلولة دون أن تكون سوريا مصدراً لتهديد الاستقرار في المنطقة أو مركزاً للجماعات الإرهابية.
فيما بدا أنه تقاطع وثيق مع الرؤية السعودية والإماراتية بخصوص الخوف من نمو الإرهاب وتصاعد النفوذ التركي وتحريك الأطماع الإسرائيلية في المنطقة.
العراق: الحذر سيد الموقف
عقب سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، أطلق العراق مبادرة لإرساء الأمن في سوريا، وقدم ورقة عراقية في مؤتمر العقبة في الأردن بشأن سوريا، حظيت بترحيب “الأشقاء العرب”، كما أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني. ومع ذلك، فإن الانفتاح العراقي المطلوب على سوريا يبقى مرهوناً بتجاوز انقسام الإطار الشيعي حول السوداني بين مؤيد للتواصل الفوري ومتريث حوله، على خلفية أن عدداً من عناصر الفصائل السورية المسلحة قاتلت في العراق بعد العام 2003 ضمن جماعات أصولية.
ومع ذلك، فإن العديد من التصريحات الإيجابية من مسؤولين عراقيين تجاه الإدارة الجديدة في دمشق تشي بإمكانية تجاوز كل هذه العقبات، سيما وأن المصالح الاقتصادية بين البلدين كفيلة بإرساء حالة من الاستقرار في العلاقة على النحو الذي يخدم البلدين.
هواجس الأردن
كان العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أول حاكم عربي يعلق على الأحداث في سوريا بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، حين أكد أن الأردن “يقف إلى جانب الأشقاء السوريين ويحترم إرادتهم وخياراتهم”، مشدداً على “أهمية العمل لفرض الاستقرار وتجنب أي صراع قد يؤدي إلى الفوضى”.
ويرتبط الأردن بعلاقات وثيقة مع الفصائل السورية في الجنوب السوري، ومع ذلك فإن ثمة مخاوف أردنية من انتشار التطرف وتسلل عناصر مسلحة إلى أراضيه، وتهريب الأسلحة إلى الضفة الغربية، وفتح شهية الجهاديين على إسقاط الأنظمة، سيما وأن هناك مئات الجهاديين الأردنيين منهم قد انخرطوا في الحرب السورية.
كما يخشى الأردن من أن تخلق أجواء عدم الاستقرار فرصة مناسبة لإسرائيل من أجل التوسع وقضم المزيد من الأراضي. في المقابل، ثمة الكثير من الفرص الاقتصادية التي يمكن أن يقدمها الأردن لسوريا ويفيد منها في الوقت نفسه، سيما وأن أراضيه ممر عبور للبضائع التركية واللبنانية وغيرها إلى دول الخليج.
لبنان: الأمن والاقتصاد
يدرك لبنان أن استقراره مرتبط باستقرار سوريا، ولهذا فإن رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي بادر إلى زيارة دمشق ولقاء قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع لتنسيق الأمور بين الجانبين على المستويات الأمنية والاقتصادية، حيث قام بفتح ملف السجناء اللبنانيين المفقودين في سجون الأسد، كما طالب ميقاتي الشرع بتشغيل خط أنبوب النفط من العراق عبر سوريا، وتنفيذ مشروعات الغاز والكهرباء مع الأردن ومصر.
تركيا: العلاقة الملتبسة
يرى متابعون للمشهد السياسي والأمني في سوريا أن العلاقة الدافئة بين دمشق وأنقرة حالياً قد لا تستطيع أن تخفي هواجس حكام دمشق الجدد من الدور الذي يمكن أن يوكله الغرب إلى أنقرة لجهة إقصائهم – وهي الخبيرة ببواطن أسرارهم – في حال عدم قدرة حلفائها الجدد في سوريا على تجاوز الشروط الغربية الموضوعة لاستمرار بقائهم في الحكم – هذا إذا لم يكن قرار إقصائهم قد اتخذ مسبقاً – بعد استعمالهم في إسقاط الأسد وإخراج إيران من سوريا.
ويشدد هؤلاء على أن معرفة الفصائل السورية المسلحة بالتقلبات التركية في العلاقة معهم – بعدما بدت في مرحلة سابقة أقرب إلى النظام السوري المخلوع منهم عقب مساعيها الحثيثة لإعادة العلاقة معه –، وعدم قدرة أنقرة على مخالفة الرغبة الأمريكية في إقصائهم كما حصل مع حكم الإخوان المسلمين في مصر، قد يجعل منهم كبش فداء في لعبة الأمم، مشيرين إلى أن هذا السيناريو قد يعجب كل الدول العربية التي تحج اليوم إلى دمشق، باستثناء قطر التي تتماهى سياستها مع سياسة أنقرة، وترغب إلى حد بعيد في استقرار حكم الفصائل الإسلامية في دمشق، باعتبارها حليفاً تقليدياً لسياسة الدوحة في الانفتاح على قوى الإسلام السياسي.
ماذا عن السوريين؟
وإذا كانت الدول العربية والإقليمية مشغولة في قراءة وصياغة التوازنات السياسية الناتجة عن وصول الإسلاميين إلى الحكم في سوريا وانعكاس ذلك على مصالحها، فإن الشعب السوري، الذي قال عنه الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر بأنه “قلب العروبة النابض”، يبدو في واد آخر بعدما أنهكه الصراع الطويل الذي عاشه بشقيه الموالي والمعارض، ونال منه الجوع والحرمان والقهر والبرد. وهو إذ يتطلع إلى دور عربي فاعل في سوريا، فإنه لا يريد أن يأتي هذا الدور في سياق الأحلاف والمحاور المتصارعة عليها، بل يريد أن يجني ثمرة تفاهم العرب على سوريا ومعها، بما ينعكس بشكل إيجابي على الواقع الاقتصادي والمعيشي الذي انحدر إلى الدرك الأسفل خلال سنوات الصراع الطويلة. ولهذا كله، فلم يعد يعني السوريين إن كانت قطر ستعمل ضمن قطاع الاتصالات وتعيد تأهيل مطار دمشق الدولي في خطوة استثمارية لمصلحة شركاتها، طالما أن الخدمات في المطار سوف تتحسن، وطالما أن الدوحة قد تكفلت بتغطية رواتب موظفي القطاع العام في سوريا.
وينسحب الأمر كذلك على المساعدات الإنسانية التي تقدمها السعودية، والتي قد تمهد لأدوار اقتصادية لاحقة يرحب بها السوريون، شريطة انعكاسها الإيجابي على واقعهم الاقتصادي، وبصرف النظر عن خلفية النقاش حول سيادتهم المرجوة على اقتصاد بلادهم.
أما تركيا، التي قال عنها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بأنها “الطرف الفائز” في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، فيبدو أنها تطمع في الحصة الأكبر من الكعكة السورية سياسياً واقتصادياً، سيما وأنها تملك من الإرث الذي حكم سوريا لأربعة قرون ما يسوق لها ويشرعن نفوذها دينياً وقومياً عند عديد السوريين، على اعتبار أن الكثير من العائلات السورية تعود أصولها إلى تركيا، التي سيكون لها “مفتاح الأحداث” في سوريا الجديدة، على حد وصف ترامب.
هي إذا سطوة الجوع التي تنحي السياسة جانبا لمصلحة سد الرمق أولا قبل التفكير في أي شيء آخر.
المصدر: RT

إقرأ المزيد

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
Comments (0)
Add Comment