يمتلئ التاريخ بالمفاجآت، ولعل فرضية وجود علاقة بين صيدا أو تونس وسواحل البرازيل واحدة بارزة في هذا الطريق. عدة خبراء متخصصون يرجحون هذا الاحتمال ويجدون له ما يعدونها أدلة قوية.
الحديث يدور حول الفينيقيين الذين يعدون من أمهر البحارة في العصور القديمة، فقد اكتشفوا الكثير من الأراضي الجديدة وأسسوا العديد من المستعمرات على طرق التجارة البحرية القديمة.
يعرف بشكل واسع عن الفينيقيين دولتهم العتيدة في قرطاجة بتونس الحالية ومقارعتهم الرومان في سلسلة من الحروب البونيقية التي انتهت بتدمير الرومان لقرطاجة وحرثها بالملح!
أما الجانب الآخر للحضارة الفينيقية، فهو انخراطها في تنافس محموم بشأن أولوية اكتشاف العالم الجديد وتحديدا البرازيل، إلى جانب الفايكنغ والسكان البولينيزيين الأصليين.
خبراء في علم الآثار والحضارات كرسوا حياتهم لإثبات أن الفينيقيين الكنعانيين لم تبحر سفنهم في مياه المتوسط فقط، بل وامتدت إلى مساحات واسعة من المحيطيين الأطلسي والهندي، وأنهم أبحروا حول القارة الإفريقية، وكانوا الأكثر مهارة في الملاحة البحرية في عصرهم.
لغز نقش “بارايبا” الحجري:
أنصار فكرة اكتشاف الفينيقيين المبكر لمناطق من جنوب القارة الأمريكية اللاتينية وخاصة البرازيل وبيرو، يجدون في نقش اكتشف في عام 1873 على حجر بمنطقة “جواو پيسوا”، الواقعة بشمال شرق البرازيل، أنصع دليل على ذلك.
جدل واسع ثار بين العلماء ولا يزال حول حقيقة النص المكتوب باللغة الفينيقية على ذلك الحجر قبل ضياعه نهائيا. بعض الخبراء رجحوا أنه مزور مثل عدة عملات فينيقية كان عثر عليها في المنطقة، إلا أن علماء بارزين أكدوا أن النص الفينيقي حقيقي وليس مزيفا.
العالم والمستشرق الألماني قسطنطين شلوتمان خلص بعد دراسة النقش في عام 1874 إلى القول: “إذا كان هذا مزيفا، فلا بد أن الفاعل كان خبيرا ممتازا في اللغة الفينيقية ولديه موهبة كتابية كبيرة، لأن السمات الفردية للنقش ليست فينيقية فحسب، بل ومن صيدا بلا شك. من الصعب افتراض أن مثل هذا الخبير في لهجات اللغة الفينيقية يعيش في البرازيل، حتى في أوروبا لا يوجد من مثل هؤلاء الكثير”.
لاحقا أكد سايروس غوردون، وهو خبير أمريكي شهير صحة النص الفينيقي على الحجر “البرازيلي”، وبحكم خبرته في فك شفرة اللغة الفينيقية توصل في عام 1960 إلى ترجمة ذلك النص المنقوش على الحجر.
ترجمة النص الفينيقي تقول: “نحن أبناء كنعان من صيدا، مدينة ملكنا. نحن، البحارة التجار، ألقينا بالبحر إلى هذا الساحل البعيد لبلد جبلي. ذهبنا إلى البحر، ونضحي بشبابنا ونمتدح الآلهة، في السنة التاسعة من عهد ملكنا حيرام. رفعنا أشرعة سفننا العشر في ميناء إيزيونجيبر على البحر الأحمر. لمدة عامين كاملين أبحرنا إلى الحافة الجنوبية لأرض حام (إفريقيا، لكن عاصفة قوية من يد الإله بعل قسمت السفن، وفقدنا رفاقنا. وهكذا وصلنا إلى هنا إلى هذا الشاطئ ونحن 12 رجلا و3 نساء”، أتاح الاسم المذكور للملك حيرام للخبراء إمكانية تحديد تاريخ النقش في الفترة بين 553 إلى 533 قبل الميلاد.
بنهاية القرن التاسع عشر، عثر على آثار مادية تعود للفينيقيين على سواحل القارتين الأمريكيتين، من ذلك اكتشاف حبات خرز فينيقية في مقاطعة لانكستر بساوث كارولينا، كما عثر في ولاية بنسلفانيا على نقوش حجرية فينيقية في عام 1949، واكتشف حجر مماثل في ولاية أوهايو في عام 1956، وعثر على نقوش فينيقية حجرية أيضا في ولاية فرجينيا، والقائمة تطول.
مع تواصل الجدل في الأوساط العلمية حول صحة الآثار الفينيقية في العالم الجديد، عثر سكان محليون في عام 1978 بمقاطعة بوياكا الكولومبية على ألواح طينية عليها نقوش فينيقية.
صمود هذه الرواية على مر الزمن، وتمسك العديد من الخبراء الكبار بها، جعل منها احتمالا قائما، وعلى الرغم من أن زيارة الفينيقيين القدماء إلى العالم الجديد لم تصبح بعد بمثابة فرضية مقبولة على نطاق واسع، إلا أنها بلا شك لم تعد هامشية.
المصدر: RT