مقالة السفير الروسي في لبنان بمناسبة الذكرى الـ80 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين



شارفت العلاقات الدبلوماسية الروسية اللبنانية هذا العام على بلوغ عامها الثمانين. وهذه مدة معتبرة بمقاييس التاريخ المعاصر. في عام 1944 تقدمت حكومة الجمهورية اللبنانية الفتية، التي كانت قد طردت المحتلين الفرنسيين من أراضيها قبل عام واحد من ذلك، إلى قيادة الاتحاد السوفيتي، باقتراح لإقامة علاقات دبلوماسية. تضمنت واحدة من الرسائل ذات الصلة، الواردة من بيروت، أسطرا عن القناعة بالتزام موسكو الصارم بمبادئ الحرية والمساواة بين جميع الشعوب. الحكومة السوفيتية لم تتجاهل رسالة لبنان، رغم المعارك الضارية التي كانت تقودها ضد الغزاة الفاشيين الألمان. 
الاتحاد السوفيتي كان من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال لبنان وفي 5 أغسطس/آب عام 1944 أقام علاقات دبلوماسية مع الجمهورية. هكذا لعب الاتحاد السوفيتي دور الضامن لاستقلال لبنان وأسهم على نحو كبير في شأن الاعتراف الدولي بدولة شرق أوسطية أخرى تخلصت من أغلال قمع الاستعمار الغربي. ومع ذلك، فتاريخ العلاقات الودية والاحترام المتبادل بين ممثلي شعوب روسيا ولبنان، قد سبق كثيرا تبادل المذكرات الدبلوماسية حول إقامة العلاقات الروسية اللبنانية بين الدولتين. 

RT

وهكذا وضعت اللبنة الأولى لبداية التلاقح الثقافي للشعبين الروسي واللبناني المحبين للسلام.  ساهمت الجهود الإنسانية للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في التطور السريع لهذه العملية. في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عملت على الأراضي اللبنانية، تحت رعاية الجمعية حوالي خمسين مما عرف بـ “مدارس موسكو”.
درس في واحدة من تلك المدارس ميخائيل نعيمة. الذي حاز فيما بعد على شهرة عالمية ككاتب وفيلسوف وأمضى بعض سنوات عمره في روسيا. لاحظ باحثو أعمال اللبناني الفذ، في الكثير منها تأثيرا واضحا للأدب الروسي الكلاسيكي. 
يوجد بالقرب من مقر السفارة الروسية في بيروت شارع “الماما”، الذي أطلق عليه اسم مؤسسة ومديرة “مدارس موسكو”، المعلمة ماريا تشيركاسوفا. كان عرفان واحترام اللبنانيين لهذه الإنسانة عميقا ومؤثرا.
لم توجه الإمكانات والموارد الروسية في لبنان من أجل نشر التعليم وحسب، فواحد من أحدث المراكز الطبية الرائدة في بيروت – مستشفى سان جورج، تأسس بالتبرعات التي جمعت في روسيا، ثم مول لفترة طويلة من خزينة الدولة الروسية.
مصير الشعبين الروسي واللبناني محبوك على نحو وثيق بروابط إنسانية لا تتمزق. منذ عشرينيات القرن العشرين وجدت جالية واسعة من المهاجرين الروس في لبنان مأوى لها.
ساهم أولئك الناس بقدر كبير في تطوير التعليم والعلوم والثقافة اللبنانية، وبينهم أحفاد الفنان الشهير فالنتين سيروف. وابنه ألكسندر عمل مهندسا في بناء السفن وطيارا عسكريا. وحفيده غريغوري أصبح معماريا مشهورا. وبعض أحفاد فالنتين سيروف لا يزالون يعيشون في لبنان. 
لعب الدور الرئيس في تطوير مدرسة الموسيقى الكلاسيكية في لبنان مؤلفو الموسيقى الكلاسيكية الروس: نيكولاي دال وميخائيل شيسكينوف وألكسي كورناوخوف وإيلينا لازاريفا وإيلينا سافرانسكايا، إضافة إلى ماريا كوسيفيتسكايا و(دورمون) وتينا مانتييفيل وإيراست بيلينغ. الأثر الذي خلفوه ما زال حتى يومنا هذا يتلألأ في أعمال الموسيقيين اللبنانيين.
أذكر أيضا حقيقة هامة معروفة في التاريخ عن العلاقات الإنسانية الروسية اللبنانية في نهاية القرن المنصرم. تلقى العديد من اللبنانيين تعليمهم في الاتحاد السوفيتي وروسيا وعاد عدد كبير منهم إلى وطنهم ليس فقط حاملين شهاداتهم بل وبرفقة أسرهم الجديدة. وتلعب أسرهم والأجيال الشابة للجالية الروسية في لبنان في المرحلة المعاصرة دورا هاما إذ تقوم مقام الجسر الإنساني بين البلدين.
انطلاقا من قناعة روسيا التامة بمبادئ الدبلوماسية الرفيعة، لم تتدخل أبدا في شؤون السيادة الوطنية للبنان. لكننا، في المواقف الصعبة كنا دوما على استعداد لمد يد العون.
نقدّم لكم بعض الأمثلة، ففي عقب حرب 2006 المدمرة رمم المهندسون والبناؤون العسكريون الروس ثمانية جسور بلغ طولها 529 مترا. تلك كانت أصعب الأعمال، لكن الأنشطة الاقتصادية للدولة اعتمدت بالكامل على هذه المرافق. 
في عام 2015 ساهمت روسيا بشكل مفصلي في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا، وبذلك درأت سيطرة الارهابيين على دول أخرى في المنطقة بما فيها لبنان.
في أغسطس/ آب عام 2020 عقب انفجار صناعي في ميناء بيروت كان رجال الإنقاذ الروس أول الفرق التي حضرت لمساعدة اللبنانيين، وأجروا عمليات بحث وإنقاذ واسعة. وتم إرسال مستشفى متحرك مع أطباء لمساعدة المتضررين في العاصمة اللبنانية.
على مدى سنوات طويلة نقدم للطلاب اللبنانيين منح مجانية لتلقي التعليم في أفضل الجامعات الروسية. يلاحظ ارتفاع ملحوظ في اهتمام اللبنانيين بالدراسة في روسيا في مختلف التخصصات.

RT

على الساحة الدولية لا تكل روسيا عن الاهتمام بحل المشاكل التي تواجه عددا من دول المنطقة، بما فيها لبنان. يجري الحديث عن مشاكل اللاجئين ومكافحة الفقر والجوع والمرض وتعزيز التعليم والتنمية ومكافحة الإرهاب والإتجار بالمخدرات والبشر وغيرها من الجرائم.
وفي هذا العام تُكمل الصداقة الروسية اللبنانية عامها الثمانين رسميًا. أثق في أنها ليست سوى بداية رحلتنا السعيدة.
 

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
Comments (0)
Add Comment