فترة وجود القوات السوفيتية في أفغانستان



فلماذا أقدمت موسكو على ارسال قواتها الى هناك ؟ وهل يمكن ان تعوض المهام المطروحة انذاك تلك الخسائر السوفيتية الفائقة ؟  لم يتم حتى الان إيجاد أجوبة عن هذه الاسئلة .

 ومما لا يثير الشك فان أحداث الثمانينات التي وقعت  في أفغانستان تلعب لغاية الآن دورا ملموسا في تطور هذا البلد والتاريخ العالمي ككل. وليس من قبيل الصدفة ان تقارن فترة مرابطة القوات السوفيتية في افغانستان مع تواجد قوات التحالف الدولية الحالية هناك برئاسة الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد تجلى بوضوح التشابه في الاحداث.
اننا نقدم لقرائنا نبذة عن فترة تواجد القوات السوفيتية في افغانستان. كما يمكنكم الاطلاع على ذكريات شهود العيان ومعرفة كيف بدأ دخول القوات السوفيتية في برنامج “رحلة في الذاكرة”.
قامت في عام 1978  بافغانستان ثورة نيسان التي دشنت بدورها قيام جمهورية افغانستان الديمقراطية. وتولى زمام السلطة الحزب الشعبي الديموقراطي الافغاني برئاسة نور محمد تركي. وتم حظر نشاط غيره من الاحزاب السياسية. وكانت السياسة الخارجية للحزب الشعبي الديموقراطي في أفغانستان موجهة آنذاك نحو الاتحاد السوفيتي الذي عقدت افغانستان معه في ديسمبر / كانون الاول عام 1978 معاهدة الصداقة والجوار والتعاون. وقد بدأت في البلاد عملية الاصلاحات ، بما فيها شطب ديون الفلاحين وضمان المساواة بين الرجال والنساء والاصلاح الزراعي.
وبعث الاتحاد السوفيتي في ربيع عام 1979 عدة آلاف من المستشارين العسكريين الى افغانستان ، واقترحت القيادة السوفيتية في الوقت نفسه على تركي بان ينحي أمين حفيظ الله الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء بعد ان اشتبهت موسكو بوجود  اتصالات له مع الاستخبارات  المركزية الامريكية.
الا ان أمين قام في سبتمبر/ايلول عام 1979 بانقلاب حكومي على تركي، وبدأ  في قمع الحركة المعارضة، وامتلأت السجون بالمعارضين لأمين. وفي اواخر عام 1979 باتت الاوضاع الخطيرة في البلاد تهدد بوجود النظام السياسيالجديد في افغانستان . وفشلت سياسة الاصلاحات،  وكان الجيش يعاني من الشلل والتفتت  ، وصار السكان يغادرون البلاد بشكل جماعي. وكانت الحكومة السوفيتية تعرب عن قلقها باحتمال سقوط نظام كابل وصعود الاسلاميين المتطرفين الى السلطة ، الامر الذي كان من شأنه ان  يسفر عن حدوث اضطرابات بين السكان المسلمين في جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية القريبة اثنيا وطائفيا من الشعب الافغاني. وبالاضافة الى ذلك فان الساسة السوفيت كانوا يبدون مخاوفهم من تقوية مواقف الولايات المتحدة في افغانستان ومن الغزو الامريكي المحتمل ، وذلك بعد قيام الثورة الايرانية  وانتقال السلطة  الى الامام الخميني الذي قطع العلاقات كلها مع الولايات المتحدة. وفي مثل هذه الظروف ادخل الاتحاد السوفيتي في ديسمبر/كانون الاول عام  1979  قواته الى افغانستان بهدف تقديم الدعم لحكومة كابل، وذلك استجابة لدعوات متكررة وردت في حينها من  جانب تركي وأمين بتقديم المساعدة العسكرية لافغانستان. وقامت الوحدات الخاصة السوفيتية في 27 ديسمبر/كانون الاول باقتحام مقر أمين الذي لقي مصرعه  نتيجة هذا الهجوم المفاجيء. وانتقلت السلطة الى بابراك كارمال زعيم فرع “برشام ” في الحزب الشعبي الديموقراطي الافغاني والذي وصل الى البلد مع الوحدات السوفيتية.

وبقيت القوات السوفيتية في افغانستان  بهدف دعم القوات المسلحة الافغانية  التي كانت تتصدى  للمعارضة المسلحة (المجاهدون) متمثلة  بالاحزاب السياسية الافغانية الدينية التي كانت تنطلق من معسكرات تدريبها ومقارها في  مدينة بيشاور الباكستانية. وتلقى المجاهدون الافغان الدعم العسكري والمالي من الولايات المتحدة والصين والدول الاعضاء في الناتو وعدد من دول الشرق الاوسط ، وكذلك من الاستخبارات الباكستانية. وكانت تتموضع في الاراضي الباكستانية مخيمات مخصصة لتدريب المقاتلين وحشد الاسلحة والذخائر التي تنقل لاحقا الى افغانستان.

معارك مستديمة  في افغانستان

 بحلول ربيع عام 1980 كانت القوات السوفيتية قد انجرت الى العمليات القتالية في اراضي افغانستان. وغدت العملية التي أجريت في إقليم قونار الافغاني  في فبراير/شباط – مارس / آذار عام 1980 اول معركة كبيرة لها. ووجهت كتيبتا المشاة الميكانيكية السوفيتية المدعومتان بالطائرات والمدفعية والوحدات الحكومية الافغانية ضربة قوية على طول ضفتي النهر وقامتا بمحاصرة مدينة اسد آباد وشتت القوى الكبيرة للمتمردين وحملتها على الفرار الى باكستان.
وتحمل في المرحلة الاولى الجنود السوفيت على عاتقهم أعباءً رئيسية في الاعمال القتالية التي اجريت في افغانستان. ولم يمتلك الجيش الافغاني المتموضع في المراكز الادارية والمخصص اساسا لحراسة اجهزة السلطة الشرعية خبرات كافية لخوض عمليات قتالية.
وغير المجاهدون تكتيكهم بعد ان لحقت بهم  هزائم  في أعوام 1980 – 1982 . فصاروا يتفادون  الاصطدامات المباشرة مع الجيش السوفيتي ويركزون على تكتيك تمثل في توجيه ضربات مفاجئة من قبل مجموعات صغيرة ثم الفرار . وصاروا يلجأون ال القيام   بمناورات واعمال قتالية في المناطق الجبلية الوعرة حيث كان من الصعب استخدام المدرعات ضدهم . ومع ذلك  فان القوات السوفيتية  حيثما  تمكنت من حمل المجاهدين على  الحرب التقليدية كانت تكبدهم خسائر فادحة.

وقد زادت العمليات الحربية من نشاطها ووصلت الى ذروتها في عامي 1984-1985. وقتل في عام 1984 ما يزيد عن 2343  عسكري سوفيتي. وعمت العمليات الحربية في عامي 1985-1986 الاراضي الافغانية كلها. وكانت غالباً ما تنتقل “المناطق المطهرة”  الى سيطرة المجاهدين  حالما تنسحب  القوات السوفيتية منها الى مواقع تموضعها الدائم ، الامر الذي يضطرها  الى العودة للعمليات الحربية مجددا في تلك المناطق . وعلى سبيل المثال فان القوات السوفيتية أجرت طيلة فترة تواجدها في افغانستان 12 عملية حربية في وادي  بنجشير ضد أحمد شاه مسعود أحد القادة الميدانيين الذي أطلق عليه لقب “أسد بنجشير” . وفي نتيجة العملية التاسعة فقط نجحت القوات السوفيتية  في طرد قوات مسعود من القسم الوسطي للوادي. غير ان النجاحات العسكرية هذه لم تدعم بإقامة أجهزة السلطة الحكومية في الاقاليم.
وكان المجاهدون يتلقون معونات من مراكزهم الواقعة في الاراضي الباكستانية التي لم يتم إغلاق الحدود معها. وكان الجنود السوفيت الاسرى ينقلون عبر تلك الحدود الى باكستان، بالرغم من التصريحات  التي كان المسؤولون الباكستانيون  يدلون بها حول عدم وجود عسكريين سوفييت اسرى في اراضيها.

انتفاضة الجنود الاسرى

أندلعت في 26 ابريل/نيسان عام 1985 انتفاضة العسكريين السوفيت الذين تم أسرهم في افغانستان ، وذلك في منطقة بيشاور الجبلية الباكستانية حيث كانت توجد هناك  قاعدة لتدريب المتمردين الافغان فيها سجن للاسرى. وتمكنت  مجموعة من العسكريين السوفييت الاسرى الذين كانوا يواجهون هناك ظروف سجن  قاسية من نزع سلاح مفرزة الحراسة للمجاهدين وافرجت عن الجنود الافغان من الجيش الحكومي الذين كانوا ايضاً معتقلين هناك ، واستولت على بعض ابنية السجن. ثم طالب المنتفضون  من المجاهدين بان يتيحوا لهم فرصة للقاء السفير السوفيتي في باكستان وممثلين عن الامم المتحدة. وعول المجاهدون على قمع الانتفاضة باسرع وقت، لكنهم فشلوا في حساباتهم. اذ ان الاسرى السوفيت والافغان استولوا على مخازن الاسلحة واحد المواقع المحصنة. فتمكنوا من صد كل الهجمات الموجهة ضدهم. بما فيها تلك الهجمات التي شاركت فيها وحدات الجيش الباكستاني. وفي نتيجة القصف المدفعي وقعت قذيفة في مخزن الاسلحة، مما تسبب في نشوب حريق  هائل وانفجارات شديدة  ادت بدورها  الى مقتل غالبية  المنتفضين . وبعد وقوع هذا الحادث أمر اكثر القادة الميدانيين الافغانيين تطرفا  قلب الدين حكمتيار جنوده بعدم اسر العسكريين السوفيت ، بمعنى آخر تصفيتهم .

البحث عن حلول جديدة للقضية

استمرت العمليات الحربية في الاراضي الافغانية طيلة النصف الاول لعام 1985 . الا ان القيادة السوفيتية والافغانية  صارت تميل الى البحث عن مواقف جديدة مبدئيا من حل القضية. وبدأت مباحثات مع قادة المجاهدين المعتدلين. وتكللت المباحثات مع أحمد شاه مسعود احد القادة الميدانيين  بنجاح جزئي، الامر الذي ساعد على اقامة هدنة هشة في وادي بنجشير. وبحلول عام 1985 اكتسب الجيش الافغاني الحكومي خبرات كافية لخوض معظم العمليات الحربية. اما وحدات الجيش السوفيتي فكانت تناط بها مهام مرافقة القوافل وحراسة الاهداف الاستراتيجية للبنية التحتية وطرق المواصلات. وسمح التغير في طبيعة عمل الجيش السوفيتي وارتفاع القدرة القتالية للجيش الحكومي بسحب جزء من القوات السوفيتية من افغانستان:  فوج للدبابات وفوجين للمشاة الميكانيكية و3 افواج مضادة للطائرات في النصف الاول لعام 1986.
وبدأت الحكومة الافغانية في عام 1987 بممارسة السياسة الرامية الى المصالحة الوطنية. وتخلى الحزب الشعبي الديموقراطي الافغاني رسميا عن احتكار السلطة واصدر في يوليو/تموز عام 1987 قانونا ينظم مسائل تأسيس الاحزاب السياسية ونشاطها. وعقد في 29 نوفمبر/تشرين الثاني في كابل المجلس الاعلى لافغانستان  “لويا جرغا”  الذي صادق على دستور جمهورية افغانستان. فانتخب محمد نجيب الله رئيسا للجمهورية. واعلن الرئيس الجديد لنواب البرلمان الافغاني عن مواصلة نهج  وقف اطلاق النار. وكان من المفترض ان تنسحب القوات السوفيتية خلال 12 شهرا، وذلك باتفاق بين الجانبين. وتوقفت القوات السوفيتية منذ يناير/كانون الثاني عام 1987 عن خوض عمليات حربية هجومية ، ولم تشتبك مع المجاهدين الا في حال هجومهم على مواقع تموضعها الثابت. غير ان وجود

الجيش السوفيتي الاربعين لم يسمح للمجاهدين بالوصول الى اهدافهم الرامية الى الاطاحة بالحكومة في جمهورية افغانستان الديموقراطية. ومن جانب اخر فان الاحزاب الاسلامية المعارضة اعتبرت  سياسة المصالحة الوطنية التي كانت تمارسها السلطات الافغانية بانها دليل على ضعفها وزادت من جهودها الرامية الى إسقاط الحكومة في كابل . كما ازداد النشاط المسلح للمجاهدين، وذلك في ظروف إعلان القوات السوفيتية والحكومية عن وقفهم لاطلاق النار من جانب واحد. وانتقلت المعارضة في النصف الثاني لشهر يناير/كانون الثاني عام 1987 الى الهجوم الحاسم على الحاميات السوفيتية والحكومية وتعرضت ايضا للهجوم  قرى وبلدات مسالمة.

الاتحاد السوفيتي يتخذ قرارا بسحب قواته نهائياً من افغانستان

في ديسمبر/كانون الاول عام 1987 وخلال زيارته للولايات المتحدة الامريكية أعلن ميخائيل غورباتشوف الامين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي  ان القرار السياسي بانسحاب القوات السوفيتية من افغانستان قد اتخذ. وبدأت بعد فترة في جنيف المباحثات بين وفود الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وافغانستان وباكستان بهدف الوصول الى حل سياسي للقضية الافغانية. وتم في 14 ابريل/نيسان عام 1988 توقيع 5 اتفاقيات تتعلق بتسوية الوضع حول افغانستان. وبموجب هذه الاتفاقيات التي يسرى مفعولها منذ 15 مايو/ آيار ذلك العام  كان يتعين على القوات السوفيتية ان تغادر اراضي افغانستان تماما. اما الولايات المتحدة وباكستان فالتزمت بعدم تمويل المتمردين الافغانيين.
وكان الاتحاد السوفيتي  يراعي كل التزاماته . وقد  سحب نصف قواته حتى 15 اغسطس/آب عام 1988 . ومع ذلك فلم تتوقف العمليات الحربية  في افغانستان ، بل  زادت من حدتها  في أنحاء البلاد كلها منذ البدء في سحب القوات السوفيتية. فمنذ منتصف مايو/آيار بدأ المجاهدون بالقصف الصاروخي للعاصمة كابل. وانشأت قواعد ومخيمات ومستودعات جديدة في المناطق المتاخمة لحدود إيران وباكستان.  كما ازدادت ارساليات الاسلحة للمتمردين  ، وزود المجاهدون  بصواريخ  “ارض – ارض” و” ارض- جو”ستينغر”.
واصبحت العملية “تايفون ” التي أجرتها القوات السوفيتية في الفترة ما بين 23 و26 يناير/ كانون الثاني عام 1989 آخر عملية حربية لها . وتعرضت مواقع مجاهدي أحمد شاه مسعود للقصف الجوي والمدفعي المكثف.
وبصورة عامة فان القوت السوفيتية وجهت ضد المجاهدين في السنة الاخيرة لتواجدها في افغانستان ضربات مؤلمة. وتم الاستيلاء على ما يزيد عن 1000 مدفع مضاد للطائرات و30000 صاروخ نفاث و700  قذيفة هاون وحوالي 25000 لغم ، وكذلك كميات فائقة من الاسلحة الخفيفة وما يزيد  عن 12 مليون طلقة لها. وتم في النصف الثاني من عام 1988 الاستيلاء على 417 قافلة تابعة للمعارضة كانت تسير من باكستان وإيران. غير ان المجاهدين كانوا لايزالون يشكلون خطرا على الحكومة الافغانية.
ونفذ الجانب السوفيتي اتفاقية جنيف. وغادر الجيش السوفيتي الاربعون في 15 فبراير/شباط كل اراضي افغانستان . وأكدت الاحداث التي تلت انسحاب القوات السوفيتية ان التوازن في هذا البلد لم يكن يحافظ عليه الا بفضل وجود القوات السوفيتية.
وغدت نتائج ما يسمى بالحرب الافغانية مؤسفة الى درجة للاتحاد السوفيتي. وبلغ عدد القتلى الاجمالي في صفوف القوات المسلحة السوفيتية 15 ألف شخص. ويعتبر 417 عسكريا سوفيتيا بين المفقودين والاسرى. وعاد الى الوطن 130 شخصاً  منهم. اما مصير الباقين فلا يزال مجهولا لحد الآن.

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});

Source link
Comments (0)
Add Comment