كما رأينا، أدلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصريح بشأن اختبار صاروخ روسي باليستي جديد متوسط المدى، كان هدفه مصنع صواريخ بمدينة دنيبروبتروفسك الأوكرانية. وشاهدنا لقطات رائعة لرؤوس حربية تسقط بسرعة جنونية على رأس المصنع، دون أن تواجه أي مقاومة من أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية “باتريوت” الموجودة لدى أوكرانيا.
وقال بوتين إن الولايات المتحدة وبريطانيا شنتا ضربات صاروخية على روسيا منطلقة من الأراضي الأوكرانية في 19 و21 نوفمبر الجاري، ما يمنح روسيا الحق في ضرب أهداف في هذين البلدين اللتان تشكلان تهديدا لروسيا، وتابع أن موسكو ستستمر في إجراء مثل هذه الاختبارات بأوكرانيا في المستقبل القريب.
وأعتقد أن القرار بشن ضربات ضد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قد تم اتخاذه بالفعل، ومن المحتمل أن يحدث قبل تنصيب ترامب، حتى لا يتم دفعه (ترامب) إلى الزاوية، وفي الوقت نفسه لتحفيزه على اتخاذ موقفا أكثر توازنا في المفاوضات المحتملة.
بالطبع، سيتم أولا تنفيذ عدة ضربات ضد أوكرانيا، ثم ضد بريطانيا، وإذا لم تحقق هذه الضربات التأثير المطلوب، ستكون الولايات المتحدة هي الهدف التالي. من المحتمل أن تكون القواعد الأمريكية والبريطانية في الخارج هي الهدف الأول، ثم يتم استهداف الأراضي الرئيسية فيما بعد، أي ستكون خطوات روسيا على سلم التصعيد تدريجية وصغيرة.
وكما هو الحال دائما مع بوتين، فإن بعض خطواته اللاحقة تفسر عددا من الأحداث والمواقف والخطوات السابقة الغامضة وتملأها بالمنطق الداخلي. على سبيل المثال، أصبح من الواضح الآن لماذا كررت السلطات الروسية علنا في وقت سابق أن الأقمار الصناعية الغربية والخبراء الغربيين يوجهون صواريخ “هيمارس”. لكن روسيا حينها لم تتخذ أي خطوات، ما أثار الأحاديث حول الخطوط الحمراء الروسية المتقلبة جدا، وهو ما ألحق ضررا بسمعة روسيا وبوتين. الآن، يتضح أن هذا الصبر كان مبررا ومدروسا. كانت روسيا بحاجة إلى تبرير قوي لضرباتها ضد الغرب من أجل تقليل خطر الحرب النووية، وتعزيز التفاهم بين الصين والهند، اللتين تعكسان أي تصعيد نحو استخدام الأسلحة النووية على وضعهما الخاص.
وبالطبع، كان بوتين على علم بتطوير صاروخ “أوريشنيك”، وكان لديه خطة لاستخدامه، تنتظر الوقت المناسب. أعتقد أن لدى روسيا أكثر من تطوير واحد من هذا النوع، وبما أن بوتين قد اتهم الولايات المتحدة بشكل مباشر بتفجير خط أنابيب “السيل الشمالي”، فهذا يدفعني للاعتقاد بأن هناك خطة أخرى لهذه القضية أيضا، سنراها قيد التنفيذ في وقت مناسب.
وبغض النظر عن ذلك، فما كان في السابق لعبة لكرة القدم على مرمى واحد، أصبح الآن رقصة “تانغو” لراقصين، يحركها ويقودها فلاديمير بوتين.
الآن، أصبحت المهمة الرئيسية لبوتين هي إبلاغ سكان الدول الغربية بأكبر قدر ممكن من الوضوح أن الرأس الحربي الفارغ الذي يسقط على رؤوسهم بسرعة 10 ماخ (عشرة أضعاف سرعة الصوت) هو نتيجة لسياسات حكوماتهم. بالتالي فإن مهمة الحكومات الغربية هي إبقاء مواطنيها في جهل مطبق حول أسباب هذه الخطوة الروسية، وتقديم الضربة الروسية المقبلة بوصفها عدوان غير مبرر ودون أي استفزاز. ولهذا السبب، تجاهلت القنوات الغربية (والقنوات العربية التي يسيطر عليها الغرب) تقريبا وبشكل تام تصريحات بوتين، والتي يمكن أن تصبح نقطة انطلاق للحرب النووية.
لكن ذلك لن يساعد الحكومات الغربية، التي سيتعين عليها تحريك الخطوط الحمراء وفقدان ماء الوجه. وإذا كنت تنتظر بداية الحرب النووية بين روسيا وحلف “الناتو” عزيزي القارئ، فسيكون عليك الانتظار لبعض الوقت. من المهم، بهذا الصدد، ملاحظة أن بوتين قال إن مثل هذه الاختبارات للصواريخ الجديدة ستستمر. أي أن روسيا، كما أعتقد، ستقوم بإطلاق صواريخ برؤوس حربية فارغة، سيكون بداخلها فقط قطعة من المعدن. وهذه الصواريخ، والضربات، في الوقت الحالي هي وسيلة سياسية أكثر من كونها وسيلة عسكرية. الأهم هو الحقيقة المجردة للضربة الروسية ضد دولة من دول الغرب وتبعاتها السياسية، أكثر من الأضرار التي تلحق بالأهداف العسكرية.
بطبيعة الحال، ستكون بريطانيا هي الهدف الأول لبوتين، فقد تراجعت شعبية حكومة ستارمر إلى ما دون الصفر، وهو بوضوح يطلب ويستحق رصاصة الرحمة التي ستنهي معاناته. في الوقت نفسه، أمام الرئيس الأمريكي الشاب الجديد حياة سياسية طويلة، وخطوطه الأمريكية الحمراء تبدو وكأنها مادة للتفاوض بين روسيا والولايات المتحدة بشأن المساعدات الأمريكية لأوكرانيا وهيكلة النظام العالمي الجديد بشكل عام. أعتقد أن بوتين لن يتعجل في ضرب الولايات المتحدة. فلرقصة “التانغو” إيقاعها وسرعتها المتمهلة، وكل ضربة صاروخية سيتم الإعلان عنها من قبل بوتين مسبقا، باستخدام التقنية الغربية القديمة: تسريبات إلى الصحافة أولا حول ضربة مرعبة، ثم نفي لهذه التسريبات، فتأكيد لضربة أصغر نطاقا، ثم الضربة الفعلية نفسها. سنغلي الضفدع الغربي ببطء، كما حدث في وقت سابق مع الضفدع الروسي. لا نحتاج إلى حرب، لا سيما الحرب النووية، لذا ستكون الرؤوس الحربية فارغة، والأهداف فقط هي الأهداف العسكرية المستخدمة في العدوان ضد روسيا. وسيتم إبلاغ سكان الدول المعادية مسبقا لتجنب الضحايا (ولتحقيق أقصى تأثير على حالتهم النفسية).
ومع كل ضربة من هذه الضربات لن يتم التصدي لها، ستولد وتعزز شعورا بالعجز لدى المواطن الغربي والغضب تجاه حكومته. فالهدف الرئيسي وجوهر هذه الحرب بين روسيا وحلف “الناتو” هو، في واقع الأمر، زعزعة الاستقرار الداخلي. والآن فقط سيلعب الجانبان هذه اللعبة.
وبرغم أن هذا بالطبع هو السيناريو المثالي. إلا أنني أخشى أن الواقع قد يكون أكثر خطورة بكثير، وليس من قبيل الصدفة أن تسعى وسائل الإعلام الغربية إلى تقديم الخطوات المستقبلية لبوتين على أنها عدوان غير مبرر، لأن الغرب، في المقابل، يحتاج إلى مبررات لمزيد من التصعيد، وهناك احتمال كبير أن تتبع الضربات الفردية بالصواريخ الروسية الجديدة محاولة للتصعيد، مثل فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، أو شن ضربات جوية أو صاروخية أكثر شمولا من الغرب ضد روسيا، ما سيؤدي بدوره إلى تصعيد من جانب روسيا. لا يمكن استبعاد أي شيء.
الوضع قطعا شديد الخطورة، وأعتقد شخصيا أنه في مرحلة معينة سنشهد حتما استخدام الأسلحة النووية، على الأقل بشكل محدود وتكتيكي. لكن الرهان في هذه اللعبة هو بقاء النخب والدول، لذلك لن يكون هناك وسيلة لن يستخدمونها لتحقيق النصر.
ومع ذلك، ففي رأيي المتواضع، وبعد الضربة الروسية الأولى ضد إحدى الدول الغربية، ستتباطأ وتيرة التصعيد قليلا. فالصواريخ الروسية هي أكثر الصواريخ سلمية في العالم، فهي تحمل السلام، ومن المتوقع أن تتأكد بريطانيا والولايات المتحدة من ذلك قريبا.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة “تلغرام” الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب