“أفضل أن أموت ورأسي مرفوع، وإيماني ثابت، وثقتي عميقة في مصير شعبي، على أن أعيش في التبعية” باتريس لومومبا، ذات يوم سيحكم علينا التاريخ، لكنه لن يكون التاريخ الذي سيرضي بروكسل وباريس وواشنطن أو الأمم المتحدة، بل سيكون تاريخ بلدان تحررت من الاستعمار وعملائه. (باتريس لومومبا).
في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2024 أتيحت لي فرصة المشاركة في أول مؤتمر وزاري في التاريخ لمنتدى التعاون ” أفريقيا – روسيا”، الذي انعقد في سوتشي في أعقاب القمة الإفريقية الروسية التي عقدت في سانت بطرسبورغ عام قبل ذلك. أعطى المؤتمر زخما لتطوير العلاقات الوليدة مع القارة السمراء وأصبح بمثابة معلم هام آخر لأولويات السياسة الخارجية لروسيا في الجنوب والشرق العالميين.
بصفتي مخططا كان مثيرا لاهتمامي الحصول على انطباع عميق عن شركائنا الأفارقة ووجهات نظرهم واهتماماتهم وقلقهم وتطلعاتهم. بعودتي إلى موطني في موسكو حققت فكرة قديمة ووضعت على الورق تلك الانطباعات والأفكار والآراء عن إفريقيا، ودورها المتنامي في الشؤون الدولية، التي جاءت نتاج سنوات عديدة من المراقبة والتنقل والعلاقات وقراءة الآداب المتخصصة.
هذا المقال كتب لغرض خاص، وهو إظهار حيازة إفريقيا على كل مقومات احتلال مكانة أقوى مركز للعالم الناشئ متعدد الاقطاب وبدء الأفارقة بالفعل التحرك نحو هدفهم. وأعلن فورا عدم ادعائي تغطية مجمل الموضوع، واتعمد عدم التطرق للعديد من النواحي التاريخية والثقافية واللغوية وغيرها من المجالات الواقعة ضمن حيز اهتمام المتخصصين في دراسات الإقليم. وسيسلط الضوء، في المقام الأول على أحداث وأدلة يمكن وفقا لها الحكم على ديناميكية تشكيل القطب الإفريقي وخواصه وآفاقه. تتضمن الخطط دراسة كل المراكز الموجودة لاتخاذ القرارات السياسية ذات الأهمية العالمية. وكذلك المرشحين للعب هذا الدور. لكن ما حفز للبدء بإفريقيا كان محض دافع رمزي، فإفريقيا بالتحديد تضم ” مهد الإنسانية”، موطننا التاريخي المشترك.
استناداً إلى النتائج الأنثروبولوجية التي أجريت في منطقة مضيق أولدوفاي (تنزانيا، عام 1959) وبحيرة توركانا (كينيا، عام 1972)، افترض العلماء أن الإنسان الحديث، أو الإنسان العاقل، ظهر على الأرجح في شرق أفريقيا منذ حوالي 200 ألف عام.
إفريقيا اليوم – حضارة معقدة للغاية. إنها ما يسمى بـ “إفريقيا الصحراء الجنوبية”، والمغرب العربي البربري، حيث يلتقي العالم الإفريقي بالعالم العربي الإسلامي، وكأنما تنساب إحدى الحضارات على الأخرى وتتداخل معها. إنها قارة ضخمة تضم العديد من الشعوب الأصيلة والثقافات والتيارات الدينية والأعراق والتاريخ القديم المتنوع. ومع ذلك فالشعور الداخلي بالمصير المشترك والإيمان بالمستقبل الواحد والرغبة في التنمية المتبادلة والتطلعات للتكامل الاقتصادي والسياسي والبحث الحثيث عن الهوية الإفريقية، هذا وغيره العديد مما يعطي أساسا لاعتبار إفريقيا كيانا جيوسياسيا متكاملا، وجزء لا يتجزأ من نظام المستقبل متعدد الأقطاب.
القطب الإفريقي – القضايا والآفاق
أكد الإعلان المعتمد في أعقاب القمة الروسية الإفريقية الثانية في سانت بطرسبرغ على ” الدور والتأثير العالمي المتنامي لإفريقيا كواحدة من أهم ركائز العالم متعدد الأقطاب”.
وبالفعل، لدى إفريقيا كافة مقومات التحول إلى مركز قوى سيادي. تمتع إفريقيا بموارد ديمغرافية وطبيعية لا محدودة توفر لها آفاقا جيوسياسية تحسد عليها، في حال استغلالها فرصة التنمية السيادية. وليس من قبيل الصدفة القول بأن إفريقيا هي قارة المستقبل. من حيث عدد السكان البالغ مليار ونصف المليار نسمة نجد إفريقيا على قدم المساواة مع الهند والصين، بل وتتفوق عليهما بمقياس التركيبة العمرية، إذ نجد نصف الأفارقة دون سن العشرين عاما.
قدر الخبراء أن يصل عدد سكان القارة ملياري ونصف المليار نسمة بحلول عام 2050، وهو ما يعني أن كل رابع شخص على وجه الأرض سيكون أفريقياً.
تعتبر أفريقيا مخزنا حقيقيا لثروات الأرض. إذ يوجد بها 30 في المائة من الموارد العالم المعدنية، بما فيها من هيدروكربونات ومعادن ثمينة وأحجار كريمة، إضافة إلى الكروم والبوكسيت والكوبالت واليورانيوم والليثيوم والمنجنيز والفحم والعناصر الأرضية النادرة. ويوجد كل هذا على مساحة إجمالية قدرها 30.37 مليون كيلومتر مربع (أي ما يقرب ضعف مساحة روسيا وفي مناخ أكثر دفئا)، ما يكفي من التربة الخصبة لإطعام جميع الأفارقة. بفضل موقعها الجغرافي، تتمتع أفريقيا بإمكانية الوصول المباشر إلى ممرات النقل العالمية، وخاصة الممرات العابرة للمحيطات.
وعلى المستوى السياسي، تضم أفريقيا 54 دولة عضو في الأمم المتحدة، و27 دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، و6 دول أعضاء في منظمة أوبك، و5 دول أعضاء في منتدى الدول المصدرة للغاز. ومن بين الدول الأعضاء في مجموعة البريكس، تمثل القارة جنوب أفريقيا ومصر وإثيوبيا، وتشارك كل من جنوب أفريقيا ومصر والاتحاد الأفريقي كأعضاء دائمين في مجموعة العشرين.
أفريقيا تتحرك سريعا نحو تعزيز البنية المؤسسية اللازمة لتنسيق وتحقيق مصالح بلدانها. ويرتكز هذا على الفكرة الأصيلة المتمثلة في الوحدة الأفريقية، مع اعتمادها على التاريخ الطويل للشعوب الأفريقية والتقاليد المحلية. ولا شك أن “إحياء القيم التقليدية للحضارة الأفريقية هو مفتاح نهضة أفريقيا كحضارة مكتفية ذاتيا.
” الاتحاد الأفريقي جسد بدايات مبدأ الوحدة الأفريقية الشاملة، موحدا البلدان الإفريقية على منصة قارية مشتركة، يرفع صوته بشكل متزايد في السياسة العالمية باسم جميع الأفارقة. يتمتع الاتحاد الأفريقي بأهمية خاصة في التخطيط الاستراتيجي. في قمة أديس أبابا عام 2015، تم اعتماد وثيقة برامج تهدف إلى تحويل القارة إلى “منطقة قوة” بحلول عام 2063 – فيما سمى بـ “أجندة -2063″مبادرة الخط الرئيس للاتحاد الأفريقي موجهة نحو تفعيل التصنيع وتعزيز الوحدة الأفريقية. المشروع الاستراتيجي لإنشاء منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية هو المشروع الأكبر في العالم وخصص للتعزيز النوعي لعمليات التكامل بغرض جعل إفريقيا كيان تجاري وسياسي من الطراز العالمي.
الخطوة ذات الأهمية البالغة، نحو توسيع قدرة الأفارقة على الدفاع عن أولوياتهم في الساحة الدولية كانت حصول الاتحاد الأفريقي في سبتمبر/أيلول عام 2023، بدعم من روسيا ودول أعضاء أخرى، على وضع العضو الدائم في مجموعة العشرين على قدم المساواة مع الاتحاد الأوروبي.
تشكل بنية العالم المتعدد الأقطاب من خلال صيغ أفقية بين الأقطاب، وفي هذا السياق يعتبر الاتحاد الأفريقي، أفريقيا كمجموعة من الدول، أحد القادة العالميين. لقد ذكرنا القمم الروسية الأفريقية. وهناك آليات مشابهة: “إفريقيا – الصين”، “إفريقيا – الولايات المتحدة”، “إفريقيا – الهند”، “إفريقيا – الاتحاد الأوروبي”، “إفريقيا – العالم العربي”، “إفريقيا – أميركا اللاتينية”، “إفريقيا – تركيا”. ومن المقترح إنشاء صيغة “إفريقيا – آسيان”.
ويؤمن اندماج أفريقيا في العمليات القارية، من خلال مشاركة الدول الإفريقية الفردية في رابطة الدولة المطلة على المحيط الهندي للتعاون الإقليمي، ومنظمة دول إفريقيا والكاريبي والمحيط الهادئ، وجماعة البلدان الناطقة باللغة البرتغالية.
تلعب الوحدة بين دول الاتحاد على المستوى شبه الإقليمي، دورا محوريا في هيكلة الفضاء الإفريقي. وعلى رأس هذه التجمعات، جماعة تنمية الجنوب الإفريقي (SADC)، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية(IGAD)، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا(ECOWAS). مجموعة شرق أفريقيا (EAC)، وتتمتع المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (ECCAS)، والسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا (COMESA) بإمكانيات كبيرة. إن النسيج المتين للعلاقات السياسية والاقتصادية داخل القطب الإفريقي يعزز قدرته على البقاء.
وبحسب خبراء روس مطلعين، فإن الدول الإفريقية “تدعم بعضها البعض على الساحة الدولية وتتخذ مواقف مشتركة بشأن العديد من القضايا المدرجة على جدول الأعمال الدولي”. وفي الوقت نفسه، تسعى إفريقيا إلى توجيه المناقشات الدولية في اتجاه بناء، مع التركيز على حل المشاكل العملية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومكافحة الفقر والظلم، والقضاء على الممارسات الحديثة للاستعمار الجديد، وضمان الأمن وحل النزاعات، وزيادة القدرة على مقاومة الأوبئة.
وكما هو الحال مع أغلبية سكان العالم، وربما بدرجة أكبر، يعاني الأفارقة من محاولات تسييس المناقشات الدولية وإخضاع آليات التعاون الدولي لمصالح الدول المستعمرة السابقة.
يشعر الأفارقة بالاستياء من استمرار استغلالهم كممثلين ثانويين في مشاريع السياسة الخارجية التي يتم الترويج لها برعاية “نظام قائم على القواعد”.
ويجري هذا بمحاولات جذبهم لحضور “قمم من أجل الديمقراطية”، التي عقدت بمبادرة من الإدارة الأميركية في الفترة 2021-2024، والضغط عليهم لإجبارهم على التصويت لصالح قرارات مناهضة لروسيا في الأمم المتحدة وغيرها من الساحات، وبالجهود الرامية إلى تأمين دعم، ولو ظاهري، للمبادرات آحادية الجانب لتسوية الأزمة الأوكرانية، دون الأخذ في الاعتبار مصلحة روسيا.
الخبراء الأفارقة يشكون من عدم استعداد الغرب “للاعتراف بحق دول القارة في أجندتها الخاصة”، واقتصار سياسته تجاه المعارضين على “معاقبتهم على اهتمامهم بمصالحهم الخاصة”. لا يمكننا ألا ندعم أولئك الأفارقة الذين يطالبون علانية “الاتحاد الأوروبي وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين بعدم فرض أسلوب حياة وقيم على من لا يريدونها”. لا يمكن عدم الاتفاق مع الاستنتاج القائل بأن القضية الأوكرانية طغت، منذ مدة على كل شيء آخر بالنسبة للغرب.
إن صوت إفريقيا، المدعوم بإمكانياتها الطبيعية القوية، أخذ يعلو على نحو متزايد في العالم. لا نشك في أن هذه العملية الناجعة سوف تنمو وفق شعار توحيد وسيادة القطب الإفريقي اللاحقة. ومع ذلك، فإن قدرة القارة السمراء على تحقيق مستوى عال من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، وبالتالي الاستقرار الجيوسياسي، أمر مستحيل دون “القضاء على جميع الآثار المتبقية للاستعمار”.
أفريقيا مقيدة بقيود الاستعمار الجديد
أنقذنا ، يا إلهي ، من أوروبا التي تتحرق لحريتنا.
بيرنار دادي ، شاعر (كوت ديفوار(ساحل العاج)
أفريقيا هي القارة الأكثر تضررا من الاستعمار ، وقد نهبها الأوروبيون بلا رحمة طوال قرون عديدة ، واستنزفوا مواردها البشرية والمادية. كانت الموارد المسروقة “وقودا نفاثا” لتسريع وتيرة التنمية في الدول الأوروبية والولايات المتحدة. كتب الشاعر الليبيري باي تي مور في خمسينيات القرن العشرين: “الحضارة تتطور على قدم وساق – يتم شحن الذهب والماس إلى أوروبا”. إن هذه الكلمات المريرة هي دليل على الصدمة التاريخية التي ألحقتها الدول الاستعمارية بالأفارقة. يعبر الخبراء الأفارقة عن قناعتهم بأن الأسباب الأولية للتخلف المعقد لأفريقيا ، والنزاعات التي نشأت على أسس إقليمية وإثنية طائفية ، كان سبب معظمها سياسة المستعمرين الجشعة.
حصلت أفريقيا على فرصة تاريخية لنيل الاستقلال واكتساب وزنٍ في الشؤون العالمية مع بداية إنهاء الاستعمار في خمسينيات – ستينيات القرن الماضي. لقد أدى النضال المتفاني الذي خاضته عدة أجيال للأفارقة من أجل الاستقلال إلى ظهور مجموعة من السياسيين الذين سجلوا أسماءهم في تاريخ العالم. إنهم باتريس لومومبا ، نيلسون مانديلا ، جومو كينياتي ، أنتونيو أغوستينو نيتو ، سامورا ماشيل ، وأميلكار كابرال وكثيرون غيرهم. أطلق على عام 1960 اسم “عام أفريقيا”. كانت بين الدول السبع عشرة التي انضمت إلى الأمم المتحدة في عام 1960 ست عشرة دولة أفريقية. وقد واجهت هذه الدول التي تخلصت من الاضطهاد العسكري والسياسي للدول الاستعمارية (بلجيكا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال وفرنسا) (واجهت) طريقا صعبا لبناء كيان دولها الجديد.
لم تجلب النهاية الشكلية لعصر الاستعمار لأفريقيا تحررا حقيقيا من التبعية الخارجية ، وخاصة في المجال الاقتصادي. لا تزال القارة ، بمواردها الغنية ، وبنيتها التحتية غير المتطورة في الوقت نفسه ، تجذب اهتمام الشركات الغربية متعددة الجنسيات. قال الكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغي إن مغزى صراع الغرب على أفريقيا هو في “الوصول إلى الموارد المحلية”.
تحتل أفريقيا حتى الآن مكانا هامشيا في نظام التقسيم الدولي للعمل ، وتعتبر في الواقع مصدرا للمواد الخام الرخيصة وسوقا لترويج المنتجات ذات القيمة المضافة العالية. ووضع الأمور التمييزي هذا ، الذي يضمن تطور الغرب على حساب الآخرين في إطار التبادل غير المتكافئ ، مفيد جدا بالنسبة للغرب. وللحفاظ على هذه الممارسة وتعزيزها تستخدم الدول الاستعمارية السابقة في أفريقيا مجموعة واسعة النطاق من الأدوات الاستعمارية الجديدة. والمغزى هو استعباد هذه الدول وتكبيلها بالديون من خلال السياسة الائتمانية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما مما يسمى “بالمانحين” الغربيين الآخرين ، في تنفيذ الرقابة الخارجية على حكومات البلدان الأفريقية ، وتنفيذ مخططات اغتصابية ، تنطوي على إخراج كل الأرباح إلى السلطات القضائية الغربية بالكامل. وكما يشير الخبراء السياسيون الأفارقة بحق ، فإن الغرب يستفيد من مخطط يتم فيه ضمان أي تقدم مزعوم في المقام الأول من قبل الشركات متعددة الجنسيات ، ولا يتحول إلى تنمية”.
كانت هناك محاولات في الماضي لكسر هذا النظام، ووضع ثروات أفريقيا في خدمة شعوبها. على سبيل المثال، المبادرات الأفريقية التي أطلقها زعيم الجماهيرية الليبية معمر القذافي، الذي اغتيل بوحشية بدعم من حلف الناتو. وكان هدفهم هو استغلال إمكانات أفريقيا لتنفيذ مشاريع التنمية واسعة النطاق. لقد كانت هناك أفكار عديدة – من إنشاء عملة مشتركة (الدينار الذهبي) وبناء البنية الأساسية لتشكيل هوية أفريقية شاملة.
وليس من المستغرب أن تتعارض هذه الرؤية التقدمية لمستقبل القارة السوداء بشكل مباشر مع المصالح الأنانية الضيقة للغرب وممارساته الاستعمارية الجديدة في النهب والدكتاتورية.
وحتى يومنا هذا لا تزال المساعدات المقدمة لأفريقيا من مؤسسات بريتون وودز ومن بعض الدول الغربية تخضع لمطالب مهينة. ويشكو الخبراء الأفارقة من أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، على سبيل المثال، تعمل بالدرجة الأولى على تعزيز الأجندة السياسية المترسخة في أيديولوجية العولمة النيوليبرالية. وتدرج الوكالة “نشر الديمقراطية، ودعم المجتمع المدني، والمساعدة في انتخاب القيادة” كأولوية لعملها في أفريقيا. إن مبادرة “الوصول العالمي” التي أطلقها الاتحاد الأوروبي لا تقترح أقل من تأكيد التزام الأفارقة بالقيم والمعايير الغربية سيئة السمعة (بما في ذلك أولوية المثليين جنسياً، وقضاء الأحداث، والعنصرية، وكراهية الروس) مقابل المساعدة.
ويمكن رؤية حجم الاستغلال المنتظم لأفريقيا من قبل الغرب في الوضع في سوق البن العالمية. تقدر منظمة البن العالمية حجم مبيعاتها بحوالى 460 مليار دولار سنويا. ومن بين هذه الأرباح، تحصل أفريقيا على أقل من 10بالمئة. تكسب ألمانيا وحدها سنويًا من تجارة القهوة أكثر من إجمالي ما تكسبه كافة بلدان القارة السوداء مجتمعة. وفي مجال الأمن الغذائي، ينتهج الغرب منذ العصور الاستعمارية، ومن خلال جماعات الضغط، سياسة إقصاء المحاصيل الزراعية المحلية التقليدية من النظام الغذائي للأفارقة، وزراعة القمح في كل مكان، وهو ما لا يناسب بشكل جيد الظروف المناخية للمنطقة. ونتيجة لذلك، وقع العديد من البلدان الأفريقية في “فخ القمح” الذي صنعه الإنسان، وأُجبروها على استيراد منتجات القمح الباهظة الثمن المنتجة في الاتحاد الأوروبي.
يعتمد الغرب أيضا ، من خلال الترويج لما يسمى بأجندة المناخ والبيئة في أفريقيا، على مصالحه التجارية والسياسية الأنانية، التي تتعارض مع تطلعات البلدان الأفريقية. وكما أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن البلدان الأفريقية “يُفرّض عليها استخدام الأدوات والتقنيات الحديثة”. لكنها لا تستطيع شراءها… ولا يعطيها أحد المال. ولكنهم يجبرونها مرة أخرى على الاعتماد على التقنيات والقروض الغربية. ويتم منح القروض بشروط رهيبة، ومن المستحيل تسديد القروض. “هذه أداة أخرى من أدوات الاستعمار الجديد.”
وخير دليل على مَن يمتلك الحق ، برأي الغرب ، في التصرف بالموارد الأفريقية ، هو تكوين ” الشراكة في مجال توريد المعادن” الذي تأسس لأفريقيا في عام 2022 : أستراليا ، بريطانيا ، ألمانيا ، كندا ، جمهورية كوريا ، الولايات المتحدة ، السويد ، فنلندا ، فرنسا ، اليابان والاتحاد الأوروبي.
إن نتيجة هذه الشراكات هي دائما حرمان الأفارقة من فرصة تحويل مواردهم إلى سيادة اقتصادية وتكنولوجية وسياسية.
والأمم المتحدة ، بسبب اندماجها في الأجندة الغربية، تساهم في خدمة مصالح هذه السياسة. ويكفي أن ننظر فقط إلى القسم “الأفريقي” من موقع المنظمة العالمية على شبكة الإنترنت، حيث لا يتصدر قائمة المشاكل التي تواجه المنطقة الفقر، ولا المهاجرون (40 في المائة من إجمالي العالم)، ولا الإرهاب أو القرصنة، ولا الصراعات، ولا الاتجار بالمخدرات والأسلحة، بل تغير المناخ. وقد أثبتت بعثات حفظ السلام الخمس التابعة للأمم المتحدة في أفريقيا ، وفقا لتقييم خبراء السياسة الأفارقة ، فشلها المزمن في تحسين الوضع الأمني. وتهدف أنشطة وكالات الأمم المتحدة، وخاصة مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى تلبية الاحتياجات الفورية بالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية الغربية الملتزمة. ولنضف إلى هذا تسييس نظام المساعدات الإنمائية الدولية من قبل المانحين الغربيين.
تساعد المنظمة العالمية الغرب في حربه المعرفية العالمية من خلال إضفاء الشرعية على المفاهيم والروايات التي تخدم مصالحه. وتجد العديد من البلدان الأفريقية نفسها مضطرة إلى الاعتراف، على سبيل المثال، بحقيقة أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يعتمد في أنشطته على المفهوم الخاطئ للتطرف العنيف. وفي إطاره يرتبط انتشار الأيديولوجيات المتطرفة الراديكالية بانتهاك حقوق الإنسان. وتتلخص توصيات الأمم المتحدة، إذا وضعنا التفاصيل جانباً، في الحد من صلاحيات وأدوات السلطات في مكافحة العناصر المتطرفة والإرهابية بشكل علني في بعض الأحيان والتي تهدد الاستقرار، ولكنها مع ذلك تعمل بما يتماشى مع الأهداف التي تعكس مصالح الغرب.
لا تؤخذ بعين الاعتبار الأسباب الحقيقية للإرهاب ــ التدخل الخارجي المدمر، وإضعاف الدولة وانهيارها، والتناقضات بين الشعوب والطوائف، والتي غالبا ما تثيرها مصالح الشركات الغربية متعددة الجنسيات.
إن كل ما ذكرناه هو انعكاس للسياسات الوطنية للدول الغربية. وهكذا، تشير استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى نفس الأولويات: نشر الديمقراطية، ودعم المجتمع المدني والناشطين، وتوسيع حقوق المثليين جنسيا، ومكافحة التضليل (اقرأ: فرض الرقابة على أي معلومات لا تعجب الأميركيون أو أقمارهم الصناعية) والتحول الأخضر.
لقد كتبت بالفعل عن واقع أن الأجندة الثورية – بالمعنى السيئ للكلمة – أجندة الليبرالية الجديدة هي في الأساس نتاج أموال غربية كبيرة ، ولا تحتاج إلى أي نوع من التقدم أو التنمية، بل لخدمة مصالح الشركات العالمية متعددة الجنسيات. وخير دليل على ذلك ، ما يفعلونه في أفريقيا.
ينوه الخبراء الشباب الأفارقة -وهم محقون في ذلك- بأن “التحرر من التبعية يبدأ بإزالة الاستعمار من عقل الإنسان -تفكيره”. وها هو الغرب يراقب بكثير من القلق كيف تجري عملية تكريس استقلالية المجتمع الإفريقي الجيوسياسي، بل ويعترف بعض العلماء الغربين مضطرين بأن “البلدان الإفريقية بحاجة إلى أن يتم فهمها واحترامها”. والمثير للدهشة حقا أن تتم الدعوة في الغرب لمحاربة حتى مصطلح “الجنوب العالمي” باعتباره كما يزعمون من انتاج الدعاية الروسية، وهم قلقون من احتمال أن تكون روسيا “تلعب على حالة الإحباط التي تعيشها إفريقيا من عدم وجود تمثيل لها في الاقتصاد العالمي والحوكمة”، وهم يُذكروننا بأن القارة الإفريقية لا تقبل التوجيهات الأخلاقية”.
إن المتلازمة المَرضيّة من عقدة التفوق على الآخرين هي التي تعيق الأنكلوساكسونيين والأوروبيين عن التعامل بشكل نِدّي مع بلدان الجنوب والشرق. ماذا يمكن أن نقول في ممارساتهم هذه إن تم في بروكسل عام ألف وتسعمئة وثمانية وخمسين – أي قبل فترة قصيرة قياسا بالمعيار التاريخي- في إطار معرض إكسبو ثمانية وخمسين عرض عدد من الأشخاص الأفارقة أحياء في أحد الأجنحة حيث تم جلبهم من الكونغو التي كانت تحت الاحتلال البلجيكي باعتبارهم “معروضات”. وقد انتشرت حدائق الحيوان البشرية في أوروبا الأطلسية، بما في ذلك في أنتويرب ولندن ونيويورك وهامبورغ طيلة النصف الأول من القرن العشرين.
إلا أن الزمن يفعل فعله في نهاية المطاف، ذاك أن النزعة التاريخية تكمن في أن عصر الهيمنة الأوربية على القارة الإفريقية قد ولى.
يجري الآن انهيار مناطق نفوذ ما بعد الاستعمار في المراكز التي كانت تتبع إليها المستعمرات، يكفي أن نذكر بأية سرعة يتقلص مجال سيطرة باريس العسكرية والسياسية في بلدان الفرانكوفونية الإفريقية. إن الأفارقة اليوم يتحررون بشكل تدريجي من ثقل آليات التعاون غير الفعالة التي شاخت بما في ذلك في المجال الأمني، ويتحررون من الآليات المرتبطة بالمصالح الاستعمارية الجديدة للغرب (كمثال على ذلك في هذا الزمن- تشكيل تحالف ثم كونفدرالية لدول الساحل). ويسترشد الزعماء الأفارقة الذين يقاومون الإملاءات الخارجية إذ يأخذون على عاتقهم حل تلك المشاكل المزمنة بالمبدأ الذي صاغه المؤرخون الأفارقة على هذه الشاكلة: ” إن الصيغ التي يمكن أن تكون مجدية وناجحة في القارة الإفريقية هي الصيغ التي لا يتم إملاؤها من الخارج، بل التي يطورها الأفارقة أنفسهم”، بالمناسبة غدا المبدأ المعروف الذي يقول: “أن المشاكل الإفريقية تحتاج إلى حلول إفريقية” في عصر تمحور السياسة العالمية حول الخصائص الإقليمية مثالا يحتذى في حالات مماثلة كالحلول الأمنية في الشرق الأوسط والخليج العربي وأفغانستان وشرق آسيا، وهناك في عموم القارة الأوراسية أمور مقاربة تجعل بلدان هذه المنطقة مسؤولة عن نفسها وعن أمنها ومصيرها.
أخيرا يساعد أيضا واقع أن تحرير إفريقيا يدخل بشكل سلس متناغم في السياق الدولي الواسع لتدعيم تعدد الأقطاب، كما أن التغييرات في ميزان القوى الدولي أخذ طابعا حاسما لا رجعة عنه، وينوه الخبراء الأفارقة بأن على القارة الإفريقية أن تركز اهتماماتها في الظروف الجديدة على تطوير مؤسساتها، وتعميق التعاون بين الدول الإفريقية، هذا التعاون الذي يقوم على مبدأ المنفعة المتبادلة، لا على التبعية. وقد سُمعت هذه الأطروحات أثناء اجتماع اللجنة التنظيمية للمنتدى الدولي لأنصار النضال ضد الممارسات الحديثة للاستعمار الجديد، والذي انعقد عام ألفين وثلاثة وعشرين بمبادرة من الحزب السياسي الروسي ” روسيا الموحدة” الذي التأم اجتماع لجنته التأسيسية في الثاني عشر من فبراير عام ألفين وأربعة وعشرين بحضور واسع من ممثلي إفريقيا، وكانت نتيجة هذا العمل المشترك ولادة حركة مناهضة الاستعمار: “من أجل حرية الأمم”
ويمكن أن نعتبر اعتماد قرار الجمعية العامة الأمم المتحدة في الرابع من ديسمبر عام ألفين وأربعة وعشرين انتصارا سياسيا بالغ الأهمية، ذلك القرار الذي يقضي “بضرورة القضاء على الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره” الذي أعدت مسودته الدول الأعضاء في مجموعة أصدقاء الدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة، والذي لعبت روسيا دورا رئيسيا في صياغته. وقد صوتت الأغلبية الساحقة من البلدان الإفريقية لصالح هذه القرار الموجه لضمان التنفيذ الكامل لإعلان عام ألف وتسعمئة وستين بمنح الاستقلال لجميع البلدان والشعوب المستعمرة، والذي يدعو للنظر في هذا السياق لمسألة إعلان الرابع عشر من ديسمبر يوما دوليا مكرسا للنضال ضد الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره (وذلك أحياء لذكرى إقرار هذا الإعلان). يمكن اعتبار هذه الخطوة التي يؤيدها الأفارقة ضمانة تؤكد أن الأمم المتحدة لم تخسر مكانتها بعد، وأنها تستطيع أن تلعب دورها البناء في توحيد القوى التقدمية لمتابعة النضال ضد الهيمنة والظلم.
إن مجموعة بريكس مدعوة اليوم للعب دور القاطرة في تدعيم التعددية القطبية والتي تشارك فيها كل من جنوب إفريقيا ومصر وإثيوبيا، ناهيك عن أن جمهورية الكونغو وموريتانيا شاركتا في القسم الإضافي لتكريس التواصل المباشر في قمة بريكس التي انعقدت في قازان في أكتوبر – تشرين أول عام ألفين وأربعة وعشرين، وهناك جانب عملي مرتبط بالمبادرات النقدية والمالية لمجموعة بريكس إضافة إلى الأهمية السياسية لمشاركة الأفارقة في هذا التجمع المتعدد الأطراف. وهكذا فإن بنك التنمية الجديد وترتيب الاحتياطات النقدية المؤقتة هي أدوات مأمولة وغير مسيسة تستطيع البلدان الإفريقية الاعتماد عليها إبان حل مسائل التطور السيادي. السياسيون والخبراء الأفارقة يقدرون عاليا إمكانيات مجموعة بريكس، وهم يعتبرون أن هذا التجمع هو القوة الدافعة نحو بناء نظام دولي جديد وعادل، وهو الأساس المضمون لهندسة العلاقات الدولية كبديل عن آليات القطب الواحد، ولا بد من الإشارة إلى أن علماء السياسة الروس يتضامنون معهم في هذا الرأي: إن توسيع بريكس وإدخال مصر وأثيوبيا في هذه الصيغة “يعتبر دليلا واضحا يؤكد أن العالم يسير نحو التعددية القطبية”
يتحقق أمام أعيننا ما أشار إليه وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف: “إن الصحوة الإفريقية الثانية جارية بالفعل، وهي هذه المرة صحوة تجاه القمع الاستعماري الجديد، وتجاه تلك الممارسات التي تعيق تنميتها”. ولا شك أن العديد من الفرص للمضي في طريق التطور ذي التوجه الوطني سيتحقق من خلال مزيد من إعادة توزيع القوة الاقتصادية والسياسية عالميا، إلى جانب تشكيل منصات مالية واقتصادية وسياسية وإنسانية بديلا عن المنصات الغربية، وروسيا مستعدة لتقديم المساعدة الشاملة لأصدقائها الأفارقة في هذا المجال.
روسيا وإفريقيا- هذا وقت جمع الحصى
فليمنحنا الله المطر أو الروس (مثل صومالي)
يكمن في مفهوم السياسة الخارجية الروسية أن بلادنا تنوي أن تعزز تطولر وتنمية القارة الإفريقية “كمركز مميز له تأثيره على التنمية العالمية”. ويعتبر التعاون مع الدول الإفريقية وفق الرئيس فلاديمير بوتن أحد الأولويات الثابتة للسياسة الخارجية لبلادنا. “إن الإعلان الصادر عن القمة الروسية الإفريقية يتحدث عن العلاقات الودية الوطيدة والمجربة تاريخيا بين روسيا والدول الإفريقية، وكذلك عن الاحترام والثقة المتبادلة، ناهيك عن تقاليد النضال المشترك للقضاء على الاستعمار وتكريس استقلال الدول الإفريقية”. كما أن لدينا صورة مشتركة للمستقبل. وقد أكد البيان الصادر عن مؤتمر سوتشي الوزاري لعام ألفين وأربعة وعشرين على مسؤولية الاتحاد الروسي والدول الإفريقية عن تدعيم إرساء نظام عالمي عادل ومستقر مبنيٍّ على مبادئ المساواة في السيادة بين الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واحترام سيادتها.
إن روسيا مهتمة بتوطيد الحضارة الإفريقية داخليا وبازدهارها وفق منطلقات مستقلة، ونحن نرفض كأصدقائنا الأفارقة التصرفات العملية المعاصرة للاستعمار الجديد، وندين سياسة العقوبات أحادية الجانب، ونحن متحدون في المطالبة بتحقيق ديمقراطية العلاقات الدولية والالتزام بمبدأ أن السيادة متساوية بين الدول. إننا لا ننظر إلى الأفارقة باستعلاء، بل نحترم طموحاتهم ومصالحهم، ونحن مستعدون أيضا للشراكة المتكافئة معهم، إننا لا نفرض عليهم أية أيديولوجيات أو قيم أو نماذج محددة للتطور، ذاك أن العلاقات مع كل دولة لها قيمة عندنا، وكما أشار الرئيس فلاديمير بوتن: “لم يكن هناك على الإطلاق في تاريخ علاقاتنا مع القارة الإفريقية أية شائبة، فنحن لم نمارس أبدا استغلال شعوب إفريقيا، ولم نقم بأي أمر غير إنساني في القارة الإفريقية”، بل إننا في الواقع على العكس من ذلك قمنا دائما بدعم إفريقيا والأفارقة في نضالهم من أجل استقلالهم، من أجل السيادة ومن أجل إيجاد الظروف الأساسية للتنمية الاقتصادية.
إن الأفارقة يذكرون بكثير من الامتنان الاتحاد السوفييتي على مساهمته في القضاء على الاستعمار، وفي تنمية اقتصادات البلدان الإفريقية، وقدرتها الدفاعية، وتأسيس دولهم، فكل ما بُني بمشاركة بلادنا غدا أساسا للتنمية، ولعِبَ دوره في رفع مستوى معيشة السكان.، ومع حلول الثمانينات كان الاتحاد السوفييتي قد وقّع اتفاقيات للتعاون التقني- الفني والاقتصادي مع سبع وثلاثين دولة إفريقية من أصل ثلاث وخمسين هي مجموع الدول في القارة الإفريقية، وقد قام الاتحاد السوفييتي ببناء ستمئة شركة ومؤسسة ومواقع أخرى، لقد ساهم الشعب السوفييتي في إشادة المدارس والمشافي والمزارع وأنظمة الري وإنشاء الطرق، وعلماء السياسة الأفارقة أنفسهم يؤكدون أن روسيا خلافا لمراكز السيطرة على المستعمرات كانت تاريخيا تسعى للمساعدة لحل المعضلات الحقيقية، ولم تضع مصالحها الأنانية نصب عينيها.
ليست هناك أية دولة إفريقية ليست صديقة لروسيا، والملفت أن جميع الدول الإفريقية امتنعت عن الانضمام للعقوبات ضد روسيا، كما أن إفريقيا تحتل المقام الأول بين الدول التي ترفض دعم أية مشاريع قرارات غربية معادية لروسيا إبان التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
“تنظر دول القارة الإفريقية إلى روسيا على أنها قائد فكري، قادر على الدفع بأجندة تلبي تطلعات القارة الأفريقية والجنوب العالمي في المحافل الدولية”.
تُعدّ روسيا طرفاً داعماً للقارة الإفريقية في سعيها المشروع لتوسيع تمثيلها في المنظمات الدولية، بما في ذلك في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ويمتلك الأفارقة موقفاً موحداً بشأن هذا الأمر، وقد تم التعبير عنه فيما يُعرف بتوافق إيزولويني وإعلان سرت، وهو موقف تحترمه روسيا.
اليوم، هو وقت عودة روسيا إلى القارة الإفريقية، وعصر إعادة إحياء الروابط المفقودة وتعويض ما فات. لفهم حجم المهام القائمة، تجدر بنا مراجعة الأرقام ومقارنتها. ففي عام 1985، بلغ حجم التبادل التجاري بين الاتحاد السوفيتي ودول أفريقيا 5.9 مليار دولار، بينما انخفض في عام 1995 إلى 0.98 مليار دولار. كما تم إلغاء وظيفة المستشار الاقتصادي في معظم السفارات الروسية في الدول الإفريقية. بالإضافة إلى ذلك، أُغلقت السفارات في بوركينا فاسو، وليسوتو، وليبيريا، والنيجر، وساو تومي وبرينسيب، والصومال، وسيراليون، وتوغو، وغينيا الاستوائية، إلى جانب المؤسسات القنصلية في وهران(الجزائر)، ولوبيتو(أنغولا)، وبور سعيد(مصر)، وبنغازي(ليبيا)، وتواماسينا(مدغشقر)، وبيرا(موزمبيق)، وأجاوكوتا(نيجيريا)، وزنجبار(تنزانيا).
كما اضطر الآلاف من الخبراء المحليين الذين كانوا يعملون بنجاح في أفريقيا إلى مغادرتها. وقد تم كل ذلك تحت شعار “الجدوى الاقتصادية” بالنسبة لروسيا، التي زعمت لسنوات طويلة أنها “تطعم أفريقيا لأسباب إيديولوجية” دون تحقيق عائدات عملية ملائمة. ومع ذلك، خلال الفترة السوفيتية، تم تصدير كميات كبيرة من المنتجات الصناعية السوفيتية إلى القارة، لكن إصلاحيي النصف الأول من التسعينيات لم يأخذوا ذلك في الاعتبار. كنتيجة، فقدت روسيا أسواقًا واسعة للسلع ذات القيمة المضافة العالية، ومصادراً للموارد الهامة استراتيجياً لتطوير القطاعات الحديثة للاقتصاد، فضلاً عن مجموعة كاملة من الروابط الإنسانية التي لا يمكن تعويضها. والحمد لله، تم طي هذه الصفحة الحزينة من التاريخ وبقيَت خلفنا.
تشهد وتيرة زيارات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى دول القارة على أهمية الاتجاه الإفريقي في السياسة الخارجية الروسية في الوقت الراهن. فقد شهد عام 2024 زيارة الوزير إلى جمهورية غينيا، وجمهورية الكونغو، وبوركينا فاسو، وتشاد. بينما خلال عامي 2022-2023، زار لافروف مصر، وجمهورية الكونغو، وأوغندا، وإثيوبيا، وإسواتيني، وأنغولا، وإريتريا، ومالي، وموريتانيا، والمغرب، وتونس، والسودان، وكينيا، وبوروندي، وموزمبيق، كما زار جنوب إفريقيا ثلاث مرات.
لقد حظيتُ بشرف مرافقة الوزير في هذه الرحلات، وكان من الواضح تقريبًا في جميع الأماكن التي استُقبِل فيها سيرغي لافروف أن هناك ترحيبًا من قبل القارة، حيث تُعتبر روسيا قوة تدافع عن الحقيقة والمساواة والعدالة على الساحة الدولية، وتقف مع حماية السيادة الحقيقية وإقامة الدولة. ومن اللافت أن الخبراء الأفارقة يربطون بين العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا ونجاحات شعوب القارة في كفاحهم من أجل الاستقلال، مشيرين إلى أن “مسار المواجهة بين روسيا والغرب يؤثر على توجهات القوى السيادية ذات التوجه الوطني في المنطقة”. وقد سمعت هذه الفكرة مرارًا وتكرارًا من مسؤولين رسميين في الدول الإفريقية خلال الزيارات المذكورة.
إن بلادنا قادرة على دعم أفريقيا في معالجة المهمة الاستراتيجية المتمثلة في تعزيز السيادة في مجالات الحياة الأساسية والتخلص من جميع أشكال الاعتماد على الاستعمار الجديد. يلزم أن نساعد أفريقيا على الارتقاء عدة درجات بشكل فوري إلى الأمام في النظام الدولي لتقسيم العمل.
يمكن لروسيا القيام بالكثير لتعزيز سيادة الدول الإفريقية، فقد بدأنا في تعزيز دورنا كضامن للأمن الشامل لدول القارة. إن وجود المدربين العسكريين الروس، وتدريب أفراد القوات المسلحة وموظفي قوات الأمن، وتوريد وصيانة المعدات العسكرية، ودعم السلطات الشرعية في حالات النزاع، يسهم في تحقيق الاستقرار ويخلق الظروف الملائمة للتنمية. كما لاحظ المحللون المحليون: “بعد فشل فرنسا وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في إفريقيا، برزت روسيا كشريك موثوق به، حيث أنجزت في غضون بضعة أشهر ما لم تتمكن القوات الدولية من القيام به لسنوات.
بلدنا قادر على دعم القارة السمراء لتصبح صناعية (بناء محطات للطاقة النووية صغيرة القدرات، وتوفير مفاعلات نموذجية، وبناء المنشآت والبنى التحتية الإنتاجية). تساعد روسيا على ضمان الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وتحسين الوضع في المجال الصحي، وتعزيز النظام الأفريقي المشترك للاستجابة للتهديدات الوبائية (يتذكر الأفارقة الدور الحاسم لخبراء وزارة الصحة الروسية ومؤسسة حماية المستهلك في مكافحة فيروس إيبولا في غرب إفريقيا خلال عامي 2014 و2015، بالإضافة إلى الشحنات السريعة للقاحات “سبوتنيك “Vأثناء جائحة فيروس كورونا COVID-19). هناك آفاق واسعة للتعاون في مجالات الطاقة، والتنقيب الجيولوجي، واستخراج الموارد الطبيعية، والعلوم والتعليم، والاتصالات، والأمن السيبراني، والزراعة. ويعرب الأفارقة عن اهتمامهم بالتعاون مع روسيا في مجال التقنيات المتقدمة، بما في ذلك الفضاء السلمي، والاستخدام السلمي للطاقة النووية، وتوظيف تقنيات المعلومات والاتصالات المحلية المتطورة. وتجدر الإشارة إلى أن تعاوننا لا يرتبط بأي شروط سياسية.
الأساس لبناء المستقبل يجب أن يعتمد على إنشاء بنية تحتية للتسويات المتبادلة، غير مقيدة بالغرب. مع الأخذ في الاعتبار حالة الاعتماد على الغرب الذي تعاني منها معظم المنظمات الدولية العالمية، تزداد أهمية تقديم المساعدة لأفريقيا عبر قنوات ثنائية. يعدّ الدعم المباشر غير المشروط للدول المحتاجة في القارة عبر توفير الحبوب والأسمدة والوقود جزءًا أساسيًا من السياسة الروسية.
يتم إيلاء أهمية تنسيقية خاصة للحفاظ على إيقاع ثابت للحوار السياسي مع إفريقيا من خلال عقد قمم ثنائية كل ثلاث سنوات (القمة القادمة يجب أن تعقد في عام 2026) بالإضافة إلى المؤتمرات الوزارية السنوية لمنتدى الشراكة “روسيا – أفريقيا” (من المخطط إجراء واحدة في عام 2025 في إحدى الدول الإفريقية). تظل هناك آفاق واعدة في مجال التنسيق مع الهيئات الإقليمية مثل الهيئة الحكومية للتنمية (IGAD)، مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية SADC))، السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا(COMESA)، المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا(ECOWAS)، تحالف دول الساحل(ASS)، المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا(ECCAS)، وغيرها. كما أن هناك اهتمامًا متزايدًا من الاتحاد الإفريقي بربط منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية(AfCFTA) مع العمليات التكاملية ضمن إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. وفي المستقبل، قد يتم الربط بين AfCFTAواتحادات تكاملية أخرى في سياق تنفيذ البعد الخارجي للمبادرة التي اقترحها الرئيس فلاديمير بوتين لإنشاء شراكة أوراسية كبرى.
توجهت روسيا نحو إعادة تشغيل أو إنشاء سفارات جديدة في القارة الإفريقية، بما في ذلك في النيجر، وسيراليون، وجنوب السودان، وغامبيا، وليبيريا، واتحاد جزر القمر، وتوغو. وفي عام 2024، تم تشغيل البعثات الدبلوماسية في بوركينا فاسو وغينيا الاستوائية. أحيانًا نسمع من بعض الأشخاص الذين بنوا مسيرتهم المهنية في الخدمة الدبلوماسية خلال حقبة “التقارب مع الغرب” في التسعينات والألفينيات مثل هذا الرأي: “قلة قليلة قد ترغب في الذهاب للعمل في إفريقيا: المناخ أصعب مما هو عليه في أوروبا، والرعاية الصحية أقل مستوى”. هناك بعض الحقيقة في هذه الآراء، لكن الأمر يعود لكل شخص ليقرر ما يبحث عنه في مهنته. ومع ذلك، فإن خدمة الوطن تعني أولاً وقبل كل شيء العمل لتحقيق المهام الحكومية، وثانياً وثالثاً توفير الراحة الشخصية، مهما كان مفهومها لكل شخص. تشارك قيادة وزارة الخارجية الروسية هذه الرؤية، ونحن نستند إلى هذا المبدأ أثناء تنفيذ “إعادة توجيه” الكوادر نحو الاتجاهات غير الغربية، وهو أمر طال انتظاره.
يساهم تطوير العلاقات بين البرلمانات في تعزيز الشراكة الروسية الأفريقية بشكل ملحوظ؛ حيث أَحدث المؤتمر البرلماني الدولي “روسيا – أفريقيا في عالم متعدد الأقطاب” الذي عقد في موسكو في مارس 2023 صدى إيجابيًا.
في ظل الظروف الراهنة، تبرز حاجة ملحّة لتبني موقف أكثر هجومية واستباقية من جانب الشركات الروسية، التي تنكشف أمامها فرص لا حصر لها للعمل في القارة الأفريقية. لقد أصبح التصور السائد بأن “النفاذ” إلى أفريقيا يجب أن يتم فقط عبر وسطاء غربيين أمراً عتيقاً. يتعين توسيع القاعدة المعرفية لدى رجال الأعمال الروس حول الأسواق الأفريقية. والأهم من ذلك، أن التعاون الاقتصادي مع أفريقيا لا ينبغي أن يُبنى على العقائد الأيديولوجية كما كان الحال في العهد السوفيتي، بل يجب أن يستند إلى مبادئ التكامل الاقتصادي والمنفعة المتبادلة.
إن زيادة الوعي بأفريقيا ومشاكلها ليست مهمة تتعلق بقطاع الأعمال فحسب. ينبغي دراسة القارة السمراء وكل الجنوب العالمي من خلال مصادر محلية ومصادرنا الخاصة، بدلاً من الاعتماد على مقالات “نيويورك تايمز” وتقارير صندوق النقد الدولي. ومن الضروري إعادة إدخال نتاج المدرسة السوفيتية في الدراسات الإقليمية إلى التداول للخبراء المحلّلين. يجب التعرف بشكل أعمق على أعمال المؤلفين الأفارقة والتخلص من العقدة النفسية للتمحور حول الغرب، والابتعاد عن تقييم الأغلبية العالمية من منظور “الإنسان الغربي”.
وتتميز روسيا بوجود مدرسة فريدة لتأهيل المتخصصين في الشؤون الأفريقية، الذين يتقنون اللغات الأفريقية بطلاقة. تُدرس اللغات السواحلية والأفريكانية والأمهرية في جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية (MGIMO)، بالإضافة إلى هذه اللغات تدرّس اللغة الفولانية في معهد بلدان آسيا وأفريقيا. كما تُدرس اللغات الأفريقية في الجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب RUDN، والجامعة الحكومية الروسية للعلوم الإنسانية RSUH، وجامعة سانت بطرسبورغ الحكومية SPBGU ، وكذلك في العديد من الجامعات الأخرى في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك، كانت مجموعة اللغات التي تم تدريسها خلال الحقبة السوفيتية أوسع، وكان عدد الطلاب أكبر، مما يعني أن هنالك الكثير لنطمح إليه في هذا المجال.
يتزايد دور أفريقيا في السياسة العالمية باستمرار. تسير ولادة الهوية الإفريقية ببطء، إلا أن ارتفاع الوعي الذاتي لدى الشعوب الأفريقية ورغبتها في تعويض ما فات خلال فترات الاستعمار وما بعد الاستعمار يمثلان دافعاً قوياً لتعزيز دور أفريقيا كإحدى أقطاب النظام العالمي القائم على التعددية القطبية. كما يشير العلماء الأفارقة، فإن هذه الرؤية تؤثر بشكل مباشر على مصير التعددية القطبية.
في نضالهم من أجل العدالة و”مكان لهم على الأرض”، يمكن للأفارقة الاعتماد كلياً على روسيا الصديقة.
المؤلف: أليكسي دروبينين، مدير إدارة تخطيط السياسة الخارجية بوزارة الخارجية الروسية.
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب