من الصعب التنبؤ بالتسلسل الدقيق للأحداث أثناء الانهيار العالمي، ذلك أن هناك عددا من المرشحين لدور الشريحة الأولى التي ستبدأ سلسلة ردود الفعل العالمية.
لذلك، سأصف فقط الجوانب الرئيسية، استنادا لتجربة انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي حدث تقريبا لنفس النمط، وشاهدته بأم عيني.
تبدو المشكلة الرئيسية هي التضخم العالمي المفرط، أي الارتفاع السريع في الأسعار وانخفاض قيمة الأموال في جميع أنحاء العالم، والأهم من ذلك، في العملات الرئيسية في العالم.
وسيؤدي انهيار هرم الديون العالمي أو اندلاع الحرب الصينية الأمريكية إلى انخفاض الإنتاج العالمي والنقص العالمي في السلع على خلفية فائض متزايد من الأموال. وستنخفض إيرادات الحكومات بشكل حاد وسترتفع تكاليف إنقاذ الاقتصاد، وستبدأ جميعها أو معظمها في طباعة النقود بوتيرة محمومة لتغطية نفقاتها.
وسيؤدي هذا بسرعة كبيرة، في غضون بضعة أشهر، إلى دفع جميع البلدان تقريبا نحو التضخم المفرط، مع تضاعف الأسعار كل بضعة أشهر أو حتى أسرع.
سيؤدي التضخم المفرط كذلك إلى تبخر جميع المدخرات المحتفظ بها نقدا أو في الودائع المصرفية بسرعة كبيرة. وستقوم الدولة أو أصحاب العمل في القطاع الخاص، ممن لم يصابوا بعد بالإفلاس، بزيادة رواتب ومعاشات التقاعد للأشخاص العاديين، ولكن بمعدل أقل من معدلات التضخم المتسارع، بالتالي سيصبح الدخل الحقيقي ومستويات المعيشة أقل بشكل كبير ومتضاعف.
سيكسر التضخم المفرط أيضا جميع سلاسل التجارة داخل كل دولة، والأسوأ من ذلك، حول العالم. كان الناس في الاتحاد السوفيتي السابق، والآن في لبنان أو السودان وزيمبابوي وفنزويلا، وغيرها من البلدان التي تعاني من التضخم المفرط، يستخدمون الدولار واليورو بدلا من العملات الوطنية في التجارة. وحتى لو تم حسابها بالعملة الوطنية، فإن الأسعار تظهر بالدولار. لكن في حالة التضخم العالمي المفرط، لن تكون هناك وسيلة للمدفوعات الدولية، بل وحتى للمدفوعات المحلية ولا شيء على الإطلاق. لا عملة محلية ولا يورو ولا دولار ولا يوان، سيقع الجميع في براثن التضخم المفرط.
من الناحية النظرية، يمكن للمرء أن يأمل أن تتمكن الصين من الحفاظ على إنتاجها وعملتها، حيث سيكون لديها في البداية فائض من السلع، أي أنه لن يكون هناك تضخم مفرط في المرحلة الأولية. لكن هذا سيعني فوزا فوريا للصين في حربها ضد الولايات المتحدة. لا أعتقد أن الولايات المتحدة سوف تستسلم بدون حرب ساخنة، وهو ما يعني على الأرجح أن الحصار الذي يفرضه تحالف “أوكوس” AUKUS سوف يعزل الصين، ويوقف معظم صناعاتها، ولن يتمكن اليوان الصيني من إنقاذ التجارة العالمية. بعد ذلك، أخشى أن تنضم الصين إلى البقية، أي أنه سيكون هناك تضخم مفرط في اليوان.
والتضخم المفرط في جميع العملات، بما في ذلك العملات الرئيسية في العالم، من شأنه أن يعطل التجارة العالمية، على الأقل لفترة من الوقت. فلا يمكنك إبرام العقود وتسليم البضائع عندما تتغير الأسعار كل يوم. علاوة على ذلك، فإن التضخم المفرط قاتل للصناعات المعقدة التي تستخدم عشرات الآلاف من المكونات من مئات الشركاء من عشرات البلدان ذات معدلات التضخم المفرط المختلفة.
أولا، سيتوقف الإنتاج المعقد مع التقسيم العالمي للعمل في جميع أنحاء العالم: الهواتف الذكية والسيارات وأجهزة الكومبيوتر والطائرات وأي إلكترونيات وكيمياء وأدوات وما إلى ذلك.
وإذا توقف مصنع الغسالات عن استلام الأبواب، فسيتوقف المصنع بأكمله. وعلى إثر ذلك ستتوقف المصانع التي تنتج الزجاج والمطاط والأسلاك الكهربائية وغيرها لهذه الغسالات عن العمل، أي سيتوقف جميع الشركاء الذين يقومون بتوريد مكونات المصنع الأول. لكن المصنع الذي زود المحركات للغسالات كان ينتج إلى جانب ذلك ضواغط لمكيفات الهواء للمصنع الثالث، لذلك فإن إيقاف مصنع الغسالات سيوقف أولا جميع شركائه، ثم جميع شركاء شركائه، وهكذا دواليك.
أي أنه في حالة التضخم العالمي المفروط، ستتوقف الصناعة العالمية بأكملها. في لبنان وروسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، استخدموا الدولار بدلا من الليرة والروبل، لكن هذه المرة لن يكون هناك دولارات، وسيكون هناك أيضا تضخم مفرط في منطقة الدولار. وسيؤدي انهيار الصناعة إلى إصابة كافة البلدان بالشلل، حتى تلك التي تتمتع بفائض في التجارة الخارجية مثل روسيا.
كل ما أفعله الآن فقط هو وصف ما رأيته في روسيا تسعينيات القرن الماضي، ولكن هذه المرة سيكون الأمر أسوأ.
بعد الأشهر الأولى من الإغلاق، من المحتمل أن تستأنف الصناعات الأكثر بدائية فقط العمل، لا سيما تلك التي ستكون قادرة على التحول إلى المقايضة، أي أن تدفع لبعضها البعض سلعها. ستقوم مصفاة النفط باستبدال طن البنزين بـ 10 خراف من المزارع، وتعطي 5 خراف لمورد النفط، الذي سيعطي اثنين لمورد الأنابيب، واثنين كأجور للعمال. هذه هي الحالة الأكثر ملاءمة، وعادة ما تحاول المصانع أن تدفع لبعضها بأطباق الخزف والطوب وإطارات السيارات والأسرة والقمصان وغيرها من السلع التي تنتجها. كان هذا هو الحال بروسيا في التسعينيات، حيث أغلقت معظم المصانع أبوابها ببساطة لأن التوربينات والقاطرات الكهربائية والسلع المعقدة المماثلة لم تكن مناسبة للمقايضة.
ستستخدم هذه المصانع نفس السلع لدفع أجور عمالها. وستظهر أسواق عفوية عملاقة حيث سيبيع عمال هذه المصانع ما حصلوا عليه من صاحب العمل بدلا من الأجور. سيكون هؤلاء هم المحظوظين الذين لم يفلس أصحاب أعمالهم ولم تغلق مصانعهم.
وكما قلت، من المرجح أن تكون الصناعات المعقدة هي الأولى التي يتم إغلاقها، وستكون لديها فرصة أقل لإعادة فتحها بعد الصدمة الأولى. وربما لن يتم فتح سوى أبسط الصناعات، فتنتج سلعا منزلية يسهل إنتاجها وبيعها في السوق نسبيا.
هكذا ماتت الصناعة القوية في الاتحاد السوفيتي، وازدهر منتجو المواد الخام بشكل رئيسي، حيث كان هناك طلب خارجي عليها بالدولار. إن حقيقة ولادة روسيا من جديد هي معجزة تعتمد على الصبر الهائل وغير المسبوق الذي تحلى به الشعب الروسي، حيث استمر الناس في العمل بالمصانع دون الحصول على أجور لعدة أشهر. ولذلك، تم الحفاظ على جزء من الصناعة المعقدة في روسيا، وكان هذا كافيا لإحيائها. وأشك إمكانية حدوث ذلك في بلدان أخرى.
سيؤدي الإغلاق الكامل للصناعة إلى زيادة حادة في البطالة وأعمال الشغب والثورات والفوضى، ما سيزيد من تفاقم عواقب توقف الاقتصاد. وسيتم الإطاحة بالعديد من الحكومات. وستكون البلدان التي تعاني من ميزان تجاري سلبي وانعدام الأمن الغذائي، وخاصة بعض البلدان العربية، التي ستكون معرضة للخطر على نحو خاص.
لكن، ولنفترض جدلاً أنه لا توجد أعمال شغب. سيؤدي إغلاق الصناعة والتضخم المفرط للعملات الوطنية إلى إضعاف الحكومات المركزية. وستحظر العديد من المناطق في البلدان الكبيرة تصدير السلع، مثل المواد الغذائية خارج مناطقها لمكافحة النقص. وستظهر مراكز للجمارك داخل البلدان وبين المناطق، ما سيزيد من تعقيد التجارة. في الوقت نفسه، ستبدأ عدد من المناطق وحتى الشركات الكبيرة الفردية في إصدار عملاتها الخاصة.
وبطبيعة الحال، سيتبع ذلك حتما الانفصالية السياسية، وسيرغب القادة المحليون في أن يصبحوا ملوكا على ممالك صغيرة، وستبدأ الدول الكبيرة في الانهيار. سيؤدي ذلك إلى قطع العلاقات الاقتصادية بشكل أكبر، حيث ستزيد الجمارك الإضافية والعملات المختلفة من الصعوبات التي تواجه الصناعة.
باختصار، ستحدث عملية بدائية سريعة للغاية للاقتصاد في مختلف أنحاء العالم، في غضون عام أو عامين، وفي بعض الحالات في غضون عدة أشهر.
وستكون البلدان الزراعية المتأخرة هي الأقل معاناة، وسوف تختفي العديد من الصناعات الفريدة. آمل أن نحافظ على تكنولوجيا الكومبيوتر، على الرغم من أنه من المرجح أن يكون هناك تراجع في هذه المجال لعدة مستويات إلى الوراء.
يمكنك الآن أن تتخيل بنفسك العواقب الاجتماعية والسياسية. لكنني سأضيف أن المعاشات التقاعدية والمزايا الاجتماعية إذا لم تختف، فإنها ستنخفض بشكل كبير. سوف ينخفض مستوى الطب، ومعدل المواليد، الذي انخفض بالفعل إلى ما دون مستوى الإحلال في العالم، سيواصل انخفاضه بشكل كبير. وستكون هناك مجاعة في بعض المناطق. وبعدد من البلدان سيكون هناك انهيار في بنى التحتية مع نزوح الناس من المدن. ستكون هناك ثورات وحروب أهلية في بعض البلدان، وستنهار بلدان أخرى، وتختفي بلدان ثالثة، وسوف يتبع ذلك هجرات عملاقة.
وفي ظل السيناريوهات المتفائلة للغاية، إذا تمكنت الصين وروسيا من هزيمة الغرب بسرعة، فإن عملاتهما سيكون لديها فرصة للبقاء مستقرة وتصبح عالمية، وهو ما من شأنه أن يخفف من الضربة التي سيتلقاها الكوكب بأكمله. وأنا أذكر روسيا والصين فقط لأن كلا البلدين يتمتعان بميزان تجاري إيجابي وصناعة متطورة، وهو ما يمنحهما الفرصة لتجنب التضخم المفرط. لكن الصين تعاني من ديون ضخمة ونقص في الموارد، وروسيا ليست مكتفية ذاتيا في الصناعة، أي أن كلا البلدين ليس لديهما سوى فرصة، وليس ضمانا. لكن تحالفهما التكميلي قد يكون قادرا على ضمان النجاح.
في السيناريو الأكثر ترجيحا، وفي غضون سنوات قليلة، سوف تتمكن البلدان التي تمكنت حكوماتها من إغراق الاحتجاجات في الدماء والحفاظ على الدولة والقطاعات الرئيسية للاقتصاد من تثبيت التضخم من خلال ربط عملاتها بالذهب وبالتالي استعادة مصداقيتها. سيتم جذب الجيران والأقاليم الأضعف التي فقدت دولتها بسرعة كبيرة إلى مدار هذه البلدان. وسيظهر عالم جديد يضم عددا من المراكز الإقليمية التي ستبدأ مرة أخرى في التنافس مع بعضها البعض. وسيبدأ الاقتصاد في النمو تدريجيا مرة أخرى، وتبدأ دورة جديدة.
وتذكر أننا نمرّ بكل هذه الأحداث “السارة” بفضل حقيقة أن الولايات المتحدة قامت بفك ارتباط الدولار بالذهب في سبعينيات القرن الماضي وبدأت في طباعة النقود غير المدعومة بالسلع بشكل غير محدود. لقد عاش الأمريكيون والأوروبيون حياة جيدة في العقود الأخيرة بفضل حقيقة أن عملاتهم تتمتع بمكانة العملات العالمية. تصرفوا بشكل غير مسؤول، وأساؤوا استخدام حقهم في طباعة العملات العالمية، وأنشأوا هرما عالميا من الديون، سيدفع الكوكب بأكمله ثمن انهياره.
وأخيرا نصيحتي: احتفظوا بمدخراتكم بالذهب والفضة، ولكن ليس بالدولار واليورو.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة “تليغرام” الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب