بدأ ترامب حينها بنفس الطريقة تقريبا التي يبدأ بها الآن: تصريحات صاخبة، وصور له بينما يوقع على المراسيم التي تمنع شروق الشمس أو تغير حركة الكواكب في الاتجاه المناسب للولايات المتحدة ولترامب شخصيا. في تلك الفترة، أحاط بالرئيس عدد من الأشخاص المؤقتين، المحميين من الدولة العميقة، ممن قيّدوا يدي ترامب ودفنوا كل آماله ومبادراته النابوليونية. اليوم، أصبحت القيود المفروضة على ترامب أقل بكثير، وأصبحت قدرته على التدمير غير محدودة.
لقد رفع ترامب سقف التوقعات إلى عنان السماء، لذا فإن الفشل في الوفاء بوعوده الآن سيبدأ في دفن سمعته ودعمه الشعبي بشكل أسرع مع كل يوم من التأخير أو الفشل في الوفاء بتلك الوعود.
في الوقت نفسه، فإن خيبات الأمل والإخفاقات حتمية وتتضمن ثلاث مستويات من التكرار أو ضمان الفشل، فإذا لم يتمكن المستوى الأول من ضمان الفشل، تبعه المستوى الثاني، فالثالث لإفشال مبادرات ترامب.
دعونا نأخذ روسيا وسعر النفط على سبيل المثال، وهما أمران مترابطان. بالأحرى، علينا أن نضيف إليهما التضخم، ثم بقية العوامل الأخرى، لأن كل الأشياء، وكما اتضح، مترابطة مع بعضها البعض، وتحرك أي عامل سينشط حركة العامل الثاني.
وهذا هو السبب الأساسي الأول لفشل ترامب الوشيك: فهو يحاول تحقيق ألف هدف في وقت واحد، الأمر الذي يتطلب التحرك في اتجاهات متعاكسة.
فمن أجل الضغط على روسيا، مثلا، أعلن ترامب بالفعل عن ضرورة خفض أسعار النفط العالمية. ولتحقيق هذه الغاية، يعتزم ترامب الضغط على المملكة العربية السعودية لزيادة إنتاج النفط.
وانخفاض أسعار النفط من المتوقع أيضا أن يؤدي إلى خفض التضخم، وهو أحد وعود ترامب.
لكني أذكركم أن ميزانية المملكة العربية السعودية لعام 2025 مخططة بعجز يبلغ نحو 27 مليار دولار، استنادا إلى سعر برميل النفط برنت عند 78 دولار، وسوف تتوازن الميزانية السعودية عند سعر 98 دولارا. أي أن انخفاض أسعار النفط سيؤثر بشدة على المملكة العربية السعودية، ولن تتمكن من تحمل ذلك لفترة طويلة.
إضافة إلى ذلك، يخطط ترامب أن يأخذ من السعودية آخر ما لديها بإجبارها على استثمار تريليون دولار في الولايات المتحدة، برغم أن الدين الأمريكي لن يتم سداده أبدا.
ولنفترض جدلا أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان سيتخلى بكل سرور عن كل خططه لتنمية المملكة وسيرفع من إنتاج النفط. مع ذلك، يجب أن نضع في الاعتبار أن هامش الأمان في روسيا كبير للغاية. فعجز الميزانية في روسيا لعام 2024، على سبيل المثال، يبلغ 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي. في المملكة العربية السعودية يبلغ هذا الرقم 2.3% (2025)، وفي الولايات المتحدة يبلغ نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى الأرجح، عندما تنخفض أسعار النفط، ستبدأ روسيا في مواجهة مشاكل، لكنها ستصبح خطيرة في غضون عام أو عامين، في حين أن الولايات المتحدة وترامب شخصيا سيواجه مشاكل خطيرة في الاقتصاد في ظرف بضعة أشهر فقط…
فتكلفة إنتاج النفط في الولايات المتحدة أعلى بكثير من نظيرتها في المملكة العربية السعودية وروسيا. معنى ذلك أن انخفاض أسعار النفط يدفع نحو انهيار إنتاج النفط في الولايات المتحدة، لا إلى نموه. والبرنامج الذي ينادي به ترامب “احفر يا صغيري، احفر” Drill, baby, drill، سينهار تلقائيا مع دوي هائل، وصناعة النفط الأمريكية ستعلن إفلاسها أو على الأقل ستعرض لضغوط شديدة، وتنخفض صادرات النفط الأمريكية، وينمو العجز في التجارة الخارجية. وقد وعد ترامب، طبعا، بالعكس تماما. واقع الأمر أن ترامب يقدم للمملكة العربية السعودية حلما طالما حلموا به سرا، وخافوا من قوله في العلن: قتل صناعة النفط الصخري الأمريكي.
ونذكر في هذا السياق فقط بأن الكنديين، الذين هم بالفعل على استعداد لمحاربة ترامب من أجل استقلالهم، يهددون بالفعل باستخدام إمداداتهم من النفط والكهرباء كأسلحة. لكن ترامب نفسه طواعية، (وأرجو أن تمنع الضحك من فضلك)، وعد كندا بالفعل باتخاذ إجراءات ضد إمدادات النفط والغاز الكندية إلى الولايات المتحدة، ما قد يؤدي إلى نقص النفط في الولايات المتحدة وزيادة التضخم المفرط…
وأعود وأذكّر هنا مرة أخرى، أن الدولة التي ستستفيد أكثر من تراجع أسعار النفط هي الصين، التي سوف تتلقى صناعاتها دفعة قوية للنمو والتوسع في أسواق البلدان الأخرى، بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها. بيد أن الهدف الرئيسي لترامب هو تحييد الصين.
لهذا، فمن أجل إحداث ضرر كبير لروسيا، فمن الضروري ليس خفض أسعار النفط، بل منع صادرات النفط الروسية بالكامل، أو على الأقل تقليصها إلى حد كبير.
لكن أولا، سيؤدي استبعاد النفط الروسي إلى ارتفاع كبير في الأسعار، ولن تتمكن حتى دول الخليج من تعويض خسارة النفط الروسي. وارتفاع الأسعار، بدلا من انخفاضها، سيؤدي إلى ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة وسيشجع الديمقراطيين والدولة العميقة على المقاومة.
ثانيا، ليس لدى الولايات المتحدة أي وسيلة لضمان ذلك بوسائل غير عسكرية. والأساليب العسكرية تؤدي تلقائيا إلى تصعيد سريع للغاية نحو صراع نووي مباشر، بعدها يفقد برنامج ترامب أهميته.
والآن دعونا نأخذ قضية المكسيك والمهاجرين غير الشرعيين.
إن سكان الولايات المتحدة يتقدمون في السن، وتعاني الصناعات الأمريكية من الخسارة في المنافسة مع الصين بسبب ارتفاع تكلفة العمالة الأمريكية. وفي ظل هذه الظروف، يخلق الاقتصاد الأمريكي نفسه ظروفا مواتية للهجرة غير الشرعية، ويشفط كالمكنسة الكهربائية بشراهة العمالة الرخيصة معدومة الحقوق من أمريكا اللاتينية، وهو ما يشكل حافزا قويا، وربما شريان حياة للصناعة الأمريكية والاقتصاد الأمريكي ككل.
لهذا فالترحيل، بل قل وقف تدفق المهاجرين ولو قليلا لن يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد فحسب، بل سيصبح أيضا حافزا قويا لنمو التضخم في الولايات المتحدة، لأن نقص العمالة سيؤدي إلى زيادة الأجور دون زيادة إنتاجية العمل.
ثم فلنأخذ قضية التعريفات الجمركية
تلك في جوهرها محاولة صريحة وفجة للسرقة الاستعمارية. يقترح ترامب أن تتحمل دول العالم الخسائر الناجمة عن ارتفاع الرسوم الجمركية. ربما كان هذا ممكنا في وقت سابق ولو على الأقل جزئيا، ولكن الآن هو الوقت الذي تتساوى فيه جميع الاقتصادات على حافة الانهيار، وهناك أزمة في كل مكان، ولا أحد يستطيع تحمل تكاليف توريد البضائع إلى الولايات المتحدة بنصف السعر حتى لو أراد. ستفلس الشركات والصناعات بكل بساطة وستسقط الحكومات. لذلك، فإن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، إذا ظلت قائمة لفترة طويلة بما فيه الكفاية، لنقل ستة أشهر، ستؤدي إلى فائض في العرض وأزمة انكماشية في الأسواق العالمية، وفي الوقت نفسه إلى نقص في السلع وزيادة كبيرة في التضخم داخل الولايات المتحدة.
من الناحية النظرية، قد يؤدي النقص المؤقت في السلع إلى تحفيز نمو الإنتاج الوطني في الولايات المتحدة في غضون عام أو عامين، ولكن هذا سيتطلب أعدادا أكبر بكثير من المهاجرين غير الشرعيين الجدد المستعدين للعمل مقابل نصف الراتب في المصانع الأمريكية الجديدة.
التالي، القضية الأوكرانية
يهاجم زيلينسكي ترامب بفظاظة، ورغم كل الجهود التي يبذلها فريق ترامب، فإنه يرفض تجميد الحرب على طول خط المواجهة الراهن. لكن ترامب تجاهل موقف زيلينسكي، وقال إن الأخير وافق على التجميد، والآن أصبح من الضروري خفض أسعار النفط من أجل الضغط على بوتين. ويبدو أن ترامب، بعد أن أدرك استحالة تراجع الطرفين (أوكرانيا وروسيا) عن مواقفهما، اختار المذنب، روسيا، وقرر تحقيق هدفه من خلال التصعيد. بالطبع، قد يكون هذا مجرد خدعة ومساومة من جانب ترامب، لكنني أميل إلى الاعتقاد بأن ترامب، ولأسباب داخلية، لا يستطيع إلقاء اللوم على زيلينسكي والانحياز إلى جانب بوتين.
يبدو لي أن الجميع بلا استثناء يعلمون أن بوتين لا يفعل شيئا تحت ضغط. علاوة على ذلك، فإن الوضع على الجبهة الآن موات لروسيا، ومواقفها قوية، وأوكرانيا في وضع يائس. وثلاث سنوات من الضغط الأقصى من جانب الغرب المتحد لم تتمكن من كسر إرادة روسيا في المقاومة. وقد وصل بايدن إلى أقصى حد ممكن، وبعده تبدأ المواجهة المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. لهذا فخيارات ترامب محدودة للغاية: فإما التنازلات، وتنازلات أمريكية، لا أوكرانية، أو التصعيد. والتصعيد إلى حرب مباشرة مع روسيا، حتى لو لم يصل إلى الدمار النووي المتبادل، فمن شأنه أن يضع حدا لفرص الولايات المتحدة في المواجهة مع الصين.
ما سبق ليس سوى بعض التناقضات، وبرنامج ترامب مليء بها، وهو غير واقعي تماما، ولا يمكن أن يؤدي إلى أي شيء آخر سوى زعزعة الاستقرار الشديدة والاستثنائية في جميع الاتجاهات، والتي ستؤثر كانهيار جليدي على جميع مناحي الحياة للجميع حول العالم وفي الولايات المتحدة نفسها. والاقتصاد العالمي، الذي نجح بطريقة ما في تجنب الانهيار حتى الآن، قد لا ينجو من مثل هذا الاختبار.
أتوقع أن يقوم ترامب، خلال وقت قصير جدا، بتفجير كل جهة يلمسها، وفي صدارتها أوكرانيا. نحن ننتظر تصعيدا.
ولكن، حتى لو افترضنا أن الصدمة الكلية سوف تكون 1/10 من الصدمة الممكنة، فحتى هذا سيكون كاف لجعل الناخبين لترامب يكرهونه ويخرجون إلى الشوارع احتجاجا في غضون 6 أشهر. مع العلم أنني لم أتطرق حتى الآن إلى أي من النقاط الرئيسية، إن لم تكن النقطة الرئيسية في برنامج ترامب: المعركة ضد الدولة العميقة، التي تنتظر اللحظة المناسبة كي تكسر عنق الرئيس.
هناك أيضا الصين وإيران وبنما وغرينلاند، ولا أجرؤ حتى على تخمين ما قد يخطر ببال الرئيس الأمريكي. فهو بالطبع شخص بارز، لكن حتى هو، وبكل إمكانياته ومواهبه، لن يقف أمام مجرى التاريخ. وأفضل ما يمكنه فعله هو البقاء هادئا، كما فعل في ولايته الأولى، والبقاء على نهج بايدن الذي يؤدي هو الآخر إلى انهيار الولايات المتحدة، ولكن بشكل أبطأ بكثير من الآن.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة “تلغرام” الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب