هذه القضية التي اكتنفها الغموض وجللتها الفضائح أطلق عليها اسم “مذبحة أوستيكا”، ودار حولها أحد أطول التحقيقات القضائية في التاريخ الإيطالي، والقضية لا تزال توصف بعد مرور أكثر من 44 عاما بأنها أحد الألغاز الدائمة في إيطاليا.
طائرة الخطوط الجوية إيتافيا وهي من طراز ” دي سي-9″، كانت تحمل 77 راكبا في رحلة داخلية من مدينة بولونيا إلى باليرمو في 27 يونيو 1980. بعد مرور ساعة على انطلاق الرحلة، اختفت الطائرة المدنية من شاشات الرادار وعير على شظايا الحطام وبعض جثث الركاب فجر اليوم التالي قبالة جزيرة أوستيكا بالقرب من صقلية، ولم يعثر على ناجين، إذ قتل جميع من كان بالطائرة وعددهم 81 شخصا.
في البداية افترض أن الطائرة المدنية الإيطالية سقطت في البحر التيراني بالقرب من صقلية فيما كانت تستعد للهبوط في عاصمتها باليرمو نتيجة إما لعطل ميكانيكي أو انفجار قنبلة بداخلها. الاحتمال الثاني لا يزال المسؤولون في الجيش الإيطالي يتمسكون به بشدة حتى الآن.
تعقيد القضية زاد أكثر في أعقاب العثور على حطام طائرة ليبية مقاتلة في جبال نائية جنوب كالابريا المنطقة الواقعة في أقصى شبه الجزيرة الإيطالية، كما تحدثت تقارير عن مشاهدة طائرات لحلف الناتو في المنطقة يوم الحادث. منذ ذلك الحين اعتقد البعض أن إسقاط الطائرة المدنية كان نتيجة أضرار جانبية، وأن صاروخا أصابها بالخطأ في عملية عسكرية سرية استهدفت في الاصل طائرة كانت تقل الزعيم الليبي معمر القذافي في رحلة سرية.
رابطة أقارب ضحايا “مذبحة أوستيكا” بقيادة داريا بونفيتي، شقيقة أحد ضحايا الطائرة، قامت بحملة واسعة لإجراء تحقيق مستقل في محاولة لكشف الحقيقة. بعد مرور 8 سنوات تم انتشال حطام الطائرة من عمق 3700 متر، وتجميعه في حظيرة قاعدة جوية بالقرب من روما. أدلة الطب الشرعي كشفت وجود آثار انفجار خارجي على الحطام.
خلص تقرير يتكون من 5500 صفحة صدر عن القاضي روزاريو بريوري في عام 1999 إلى أن طائرة أوستيكا من المحتمل أن تكون أسقطت بصاروخ للناتو، متهما في نفس الوقت الجيش الإيطالي والأجهزة الأمنية بالتورط في تغطية جنائية.
هذه الوثيقة أفادت بأن التحقيق تمت إعاقته بالتحفظات وشهادات الزور من قبل القوات الجوية الإيطالية وحلف شمال الأطلسي، “ما أدى إلى تشويه أو إخفاء المعلومات حول الحادث”.
التقرير أفاد بأن الحادث الذي تعرضت له طائرة ” دي سي 9 نتيجة كان نتيجة لعملية اعتراض عسكرية، وتم إسقاط دي سي 9، وتحطيم حياة 81 مواطنا بريئا بسبب عمل، كان بشكل صحيح عملا من أعمال الحرب، وحربا فعلية وغير معلنة، وعملية بوليسية سرية دولية ضد بلدنا، الذي انتهكت حدوده وحقوقه”.
جدار السرية السميك ظل على حاله، وتم في وقت لاحق تبرئة أربعة جنرالات كان اتهمهم التحقيق بتدمير وإخفاء الأدلة والخيانة العظمى وحنث اليمين.
الاختراق القضائي اللافت جرى في 13 يناير 2013، وخلصت فيه المحكمة العليا الجنائية الإيطالية إلى أن الحادث وقع بسبب ضربة صاروخية خاطئة من قبل سلاح الجو الإيطالي، وألزمت الدولة الإيطالية بدفع 100 مليون دولار أمريكي لأسر الضحايا.
المحكمة أكدت وجود أدلة كثيرة على أن “صارخا طائشا” تسبب في تدمير طائرة الركاب الإيطالية بالقرب من جزيرة صقلية في عام 1980، وايدت قرارا سابقا كان صدر من محكمة باليرمو المدنية في سبتمبر 2011 بإلزام الحكومة الإيطالية بدفع تعويضات، نتيجة لفشل أنظمة الرادار المدنية والعسكرية في حماية المجال الجوي للبلاد وبسبب إخفاء الحقيقة وتدمير الأدلة.
اتهم رئيس الوزراء الإيطالي السابق جوليانو أماتو بشكل صريح في سبتمبر 2023 بالمسؤولية عن الحادث، وجدد ما قاله في مقابلة صحفية في سبتمبر 2007 بأن سقوط الطائرة حصل إثر اشتباك عسكري سري، وأن الطائرة المدنية الإيطالية تعرضت لضربة صاروخية كانت تستهدف في الأصل طائرة القذافي.
في التصريح المثير الأخير، اتهم رئيس الحكومة الإيطالية الأسبق تحديدا فرنسا والولايات المتحدة بالمسؤولية عن مقتل 81 شخصا من ركاب طائرة أوستيكا، ووصف ما جرى بمحاولة اغتيال فاشلة لزعيم ليبيا معمر القذافي.
أماتو شدد على أن “الرواية الأكثر صدقية هي أن القوات الجوية الفرنسية مسؤولة بالتواطؤ مع الأمريكيين”، وأن ذلك جرى “بهدف الإطاحة بالقذافي”.
رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق دعا بحرارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكان وقت الحادثة طفلا لم يتجاوز الثالثة، إلى “تطهير العار الذي يثقل كاهل فرنسا”، بإثبات أو نفي هذه الفرضية.
المسؤول الإيطالي الرفيع السابق ذكر أيضا أن بتينو كراكسي، السكرتير الوطني للحزب الاشتراكي الإيطالي في ذلك الحين، والمعروف بقربه من القذافي، “سمع” بوجود خطر عليه إذا دخل المجال الجوي الإيطالي وقام بتحذيره. نجل كراكسي أكد هذه المعلومة في تغريدة على منصة إكس، إلا أنه أشار إلى أن والده أبلغ القذافي بالأمر في عام 1986، بعد مرور 6 سنوات على تلك الكارثة.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، قد صرّح الرئيس الإيطالي الأسبق فرانشيسكو كوسيغا في عام 2008 قبل وفاته بعامين، بأن حلف الناتو أسقط الطائرة بالخطأ أثناء استهدافه طائرة القذافي.
هكذا تكبر كرة الثلج باستمرار في قضية “مذبحة أوستيكا”، ويزداد غموضها كلما ظهرت أدلة وقرائن جديدة أو تحقيقات وأحكام قضائية، ما يشير إلى أن الصمت حولها متعمد ومفيد، وأن أطرفها لا تريد للحقيقة أن تظهر حتى بعد رحيل القذافي.
المصدر: RT
إقرأ المزيد
الساحل المبتسم و”فجوة القذافي”
بعد أن أخرج بلاده من الكومنولث، أعلن الرئيس الغامبي يحيى جامع في 11 ديسمبر 2015 بلاده دولة إسلامية لتصبح الدولة الثانية في القارة الإفريقية التي تحمل هذه الصفة بعد موريتانيا .
ستالين بشأن ليبيا: “من قرر هذا الأمر؟”!
قد لا يعلم الكثيرون أن الزعيم السوفيتي يوسف ستالين خاض نقاشات حادة مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل حول ليبيا في فترة مبكرة، بنهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة.
(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
Source link