قرأت مقال ألكسندر دوغين بعنوان ” إلى الأمام قدما.. نحو العصور الوسطى الجديدة!”، وفوجئت مرة أخرى بمدى جنون الدعاية الغربية، التي تنسب للرجل مكانة “مؤدلج بوتين”.
في واقع الأمر، فمن الواضح للجميع هنا في روسيا، أن دوغين، مع كل الاحترام لشخصه وموقفه الوطني، ليس مؤدلجا لبوتين، بل إنني، وبشكل عام، لا أتصور بناء أيديولوجية دولة على مثل هذا الأساس الهش.
ففي ضوء الأزمة الديموغرافية العالمية، واستنزاف الموارد الرخيصة، والصدمة العالمية المقبلة، من تدمير هرم الديون وانقطاع الاتصالات التكنولوجية العالمية، أتوقع شخصيا أن تتراجع البشرية تكنولوجيا، ربما لعدة عقود، ولعدة قرون في بعض الأماكن. أي أنه من الصحيح تماما الحديث عن إمكانية ظهور “عصور مظلمة” جديدة، وهو ما أثار اهتمامي في عنوان مقال دوغين.
ومع ذلك، فإن المقال لا يتضمن أي تحليل للآفاق الحقيقية للإنسانية. هناك بيان بتحلل الأسرة في المجتمع الحضري، الرأسمالي والشيوعي. وهناك دعوة للتخلي عن المدن، والعودة إلى الريف، والحياة في منازل من طابق واحد، والأهم من ذلك، إلى عائلة الفلاحة الراسخة ذات القيم المحافظة الفاضلة الصارمة والأخلاقية.
وأنا لا أستند هنا إلى تصنيف ما هو “جيد” أو “سيء” الآن، وأنا لا أعيش في شقة، بل في منزل خاص بمحض إرادتي واختياري، وأتمنى من كل قلبي أن يكون غالبية الروس محافظين، وأن يعيشوا في جو يقترب مما يريده دوغين، وأن يتكاثروا مثل الأرانب.
لكني أستند إلى قوانين الطبيعة البحتة غير المنحازة، التي يخضع لها كل من الاقتصاد والمجتمع، وهي القوانين التي لا شأن لها بما هو جيد أو سيء، وإنما تملي علينا ببساطة كيف يكون وسيكون الأمر.
لقد كانت عائلة الفلاحة قوية ومحافظة لأن الحياة كانت صعبة، وكان الموت سائدا وكان لدى الشخص في إطار الأسرة فرصا أكبر للبقاء على قيد الحياة. أما الأسرة الحديثة فتنهار بسبب أن مستوى رفاهية المجتمع يسمح للمرأة بالبقاء على قيد الحياة وحتى تربية الطفل بلا أب، ولا يتعين على كبار السن أن ينجبوا أطفالا حتى لا يموتوا من الجوع. لقد تحول الجميع من السعي إلى البقاء إلى المتعة، أولا لأن الظروف تسمح بذلك، وثانيا لأن من طبيعة الإنسان أن يسعى إلى حياة أسهل.
وتجاهل هذه الرغبة الإنسانية الفطرية هو يوتوبيا خطيرة، وانفصال كامل عن الواقع. وكما يمكننا الحكم من نموذج بناء الشيوعية، فإن محاولة بناء مثل هذه المدن الفاضلة ستنتهي حتما بالفشل.
كما أن هناك “أمر تافه” آخر ينطلق من قانون التجاذب الكوني، وتجسداته المختلفة، ومن بينها على سبيل المثال قانون تركيز رأس المال الذي اكتشفه كارل ماركس. كذلك فإن تركيز الناس في مكان واحد يوفر في المجمع البشري فوائد هائلة تتمثل في توفير تكاليف البنى التحتية، بدءا من طول الطرق وشبكات الطاقة والخدمات اللوجستية وانتهاء بفقدان الحرارة في المباني وغيرها. وهذا التركيز فعّال ومن المستحيل مقاومته، تماما مثل قانون التجاذب.
إن تركيز الناس، أي التحضّر، هو مصدر قوي وشرط ضروري لرفع مستوى معيشة البشرية.
إن الأسرة القوية والقيم المحافظة هي نتاج الحياة الصعبة. أما الأسرة المدمرة والقيم الليبرالية، بما في ذلك LGBT، وغيرها من الأشياء الشيطانية، هي نتيجة حتمية للحياة السهلة، وهذا ما يجب فهمه وتقبله.
من الممكن إعادة الناس إلى الفلاحة والأسرة المترابطة، لكن سيتعين على هؤلاء الأشخاص حرث الأرض على ظهور الخيل، والخروج أحيانا إلى المدن، كما يدعو دوغين، سيرا على الأقدام عبر الوحل حفاة الأقدام، بلا طرق معبدة. والأهم من ذلك، هو أن نقل الناس إلى القرى، وتقوية الأسر، لن يمر دون حمامات الدم ومعسكرات القمع والموت، حيث أن قليلين هم من سيرغبون في تدهور مستوى معيشتهم بشكل كبير من أجل إحياء القيم المحافظة والفاضلة (أقولها دون أدنى قدر من السخرية).
إن أنصار اليوتوبيا “الإنسانية”، كما أثبت الشيوعيون بالفعل، وكما يثبت الآن الليبراليون الغربيون مرة أخرى، هم أكثر الطغاة دموية، والعياذ بالله أن يسلك المحافظون هذا الطريق.
فماذا سيحدث بعد ذلك إذن؟ سيحدث بالضبط ما يريده دوغين، ولكن ليس بجهوده وخلافا لرغباته (إنقاذ المجتمع).
إن كل شيء في الحياة دوري. وكما وصف المؤرخ الروسي الكبير ليف غوميليوف في كتابه “النهاية والبداية من جديد”، فإن كل الأمم تمر بدورات، تبدأ من الولادة وحتى الموت. ومن المنطقي أن نفترض أن ينطبق هذا ليس فقط على الأمم الفردية، وإنما على البشرية جمعاء.
لقد وصلت البشرية، أو على الأقل معظمها، إلى أعلى مستوى ممكن من الرفاهية في إطار المستوى التكنولوجي الحالي. ودخلت غالبية البشرية، بدرجة أو بأخرى مرحلة القيم الليبرالية والأسرة المفككة.
وأظهر غوميليوف نفسه أنه من المستحيل، خلال عملية التطور، التراجع إلى المرحلة السابقة (كما يحاول دوغين أن يفعل). وبعد الوصول إلى القمة، يسقط القديم إلى أسفل حيث يموت، في ذات الوقت الذي يبدأ فيه إحياء الجديد.
سأوضح هذا المبدأ باستخدام التركيبة السكانية: ففي “المرحلة الصعبة” الأولى، كان هناك معال واحد لعدة أشخاص عاملين. وكان الناس، على سبيل المثال في إنجلترا، أوائل القرن الماضي، يعملون منذ الطفولة المبكرة من سن 6-7 سنوات، وحتى الموت تقريبا، ويموتون مبكرا.
الآن، في المجتمعات المتقدمة، يوجد معال واحد (رجل عجوز أو طفل) لكل عامل. على سبيل المثال، يوجد في روسيا الآن 11 معال لكل 10 عمال. الآن، يتراجع معدل الولادات في جميع أنحاء العالم، حتى في الدول العربية وإفريقيا، رغم أنه لا يزال مرتفعا نسبيا. وفي أوراسيا وأمريكا وأستراليا، انخفض معدل المواليد إلى ما دون مستوى استبدال السكان، وهو ما يعني أن غالبية المعالين، الذين سيدعمهم كل عامل سيكونون من كبار السن، وليس الأطفال، وسيحاول العمال رفع مستوى معيشتهم عن طريق تقليل عدد الأطفال، حيث أن هذا أمر ممكن، ولكن لا يوجد مجال للالتفاف حول هذه المشكلة. فكبار السن موجودون بالفعل، ويعيشون فترة أطول وأطول، أي أن العمال لن يتمكنوا من تقليل عدد المعالين على حساب كبار السن، وهو ما يعني أن كل جيل قادم سيكون أقل عددا من الجيل السابق.
بمعنى أن البشرية قد بدأت في الانحدار الديموغرافي، يعقبه حتما انهيار الحضارة، الذي لن يتوقف حتى يتم استعادة التوازن الديموغرافي. وسيبدأ الأطفال العمل بدءا من 7 سنوات في رعي الماشية، ويعمل كبار السن حتى الموت تقريبا، والذي سيداهمهم في سن 45-50 عاما بسبب حصوات الكلى أو التهاب اللثة بسبب التسوس، نظرا لأن مستوى الطب لن ينقذهم. عند تلك النقطة فقط سيبدأ عدد الأطفال في النمو مرة أخرى، وسيعيش الناس في القرى، كما يريد دوغين، ويحرثون الأرض على الخيول. وحتى ذلك الحين، سيستمر عدد السكان في الانخفاض.
لا يمكننا مقاومة التطور الدوري الطبيعي للإنسانية، ولا التحضر، ولا السقوط اللاحق. يمكننا أن نحاول ملء الشوارع بالدماء، لكن النتيجة ستكون واحدة في النهاية على أية حال.
لهذا، أقول نعم، ثمة عصور مظلمة جديدة تنتظر البشرية، لا أعرف حقا كم من الوقت وبأي سرعة سيكون السقوط. ولكن، من حيث المبدأ، أصبحنا بالقرب من الذروة، وفي هذه اللحظة عادة ما لا تسير العمليات بسرعة كبيرة، وآمل أن يستغرق السقوط 50-100 عام، وأن تظل الأجيال الحية قادرة على العيش بشكل جيد نسبيا.
على أية حال، لأكون أمينا، فأنا متفاجئ من درجة سوء فهم ألكسندر دوغين لأساسيات الكون، ناهيك عن أساس حياتنا اليومية: الاقتصاد.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة “تليغرام” الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب