السياسة ليست مكانا للأطفال.
ومع ذلك، فالطفولية هي أحد الدوافع الرئيسية للسياسة الحديثة في ظل انتشار المعلومات بسهولة، وتمتع وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية بسلطة غير مسبوقة على العقول، وتمتع جميع السكان بحق التصويت.
يؤدي ذلك إلى اختيار كثير من الشعوب نفس طريقة التدمير الذاتي، من خلال محاولات الحصول على أهداف بعيدة المنال الآن وهنا.
بل يزداد الأمر خطورة عندما يسترشد السياسيون بأفكار طوباوية.
ويوجد، على وجه الخصوص، عدد من أوجه التشابه في أسلوب التدمير الذاتي للاتحاد السوفيتي، وما حدث في سوريا والعراق وليبيا وأوكرانيا.
العامل الأول هو أن عامة الناس، وحتى بعض السياسيين، وتحت تأثير الدعاية الغربية، يقبلون فكرة أن مستوى المعيشة المرتفع في الغرب هو نتيجة “للديمقراطية الغربية” (وواقع الأمر ليس كذلك).
يضاف إلى ذلك أيضا سوء فهم الشروط الضرورية للتنمية الاقتصادية. حيث نستمع دائما في البلدان التي تمر بأزمات كلمة “الإصلاح”، فيما يعتقد الجميع أن بإمكان هذا “الإصلاح” تغيير الوضع وتحقيق الرخاء، وهذا أيضا غير صحيح في العادة.
لا يزال الغرب أغنى من بقية العالم، وهو أمر من الصعب إنكاره، ويريد الناس جميعا أن يصبحوا مثل الولايات المتحدة، أو بالأحرى على نفس الصورة الخيالية المرسومة لها. وإذا لم ينجح ذلك (وهو أمر لا ينجح مع الجميع)، فإن الناس يكونون غالبا على استعداد لمنح الولايات المتحدة السلطة عليهم، حتى تتمكن من تحسين حياتهم، بعد أن فشلت مساعيهم في ذلك. إلا أن هذه الطريقة لم تعد ناجحة ولا تؤدي إلى الرخاء بل إلى الكارثة.
العامل الثاني والهام جدا، فيما يتعلق بسوريا والعراق وليبيا وأوكرانيا (في حدودها الحديثة)، أن تلك دول ذات تركيبة معقدة، استقبلت حدودها الحالية بشكل فجائي وعشوائي. ولن يكون من المبالغة وصف هذه البلدان بأنها “مصطنعة”.
في الواقع، بإمكاننا تسمية البلدان بأنها طبيعية، حينما تكون نتاج أو مشروع مجموعة عرقية معينة. فقد أمضت مثل هذه الدول قرونا بينما تسعى نحو حدودها الحالية وتكوينها العرقي أو الديني الراهن. وكل خطوة ارتبطت بتعقيد هذه التركيبة واتساع الأراضي كانت تصاحبها أزمات وتضارب في المصالح والبحث عن حلول وسط. وتتوسع البلاد ويتم تضمين عنصر عرقي أو ديني جديد في الفسيفساء إذا تم حل كل أزمة صغيرة على حدة وبشكل إيجابي، وإذا تحملت المجموعة العرقية الرئيسية عبء التكاليف المالية والعسكرية المرتبطة بتوسيع الأراضي والحفاظ على التراث، وتم تضمين المتطلبات اللازمة للحفاظ على مثل هذا البلد في القانون الثقافي للمجموعة العرقية الأساسية.
فإذا تم تشكيل دولة ذات تركيبة عرقية ودينية معقدة على نحو مصطنع، ولم يكن لديها مجموعة عرقية أساسية قادرة على تشكيل الرمز الثقافي المطلوب، فإن هذه الدولة تتفكك على الفور، أو تتولد حاجة إلى درجة معينة من القمع لوأد التناقضات والحفاظ على البلاد. وكقاعدة عامة، يأخذ وأد التناقضات شكل قمع النشاط السياسي بشكل عام، وقمع القوى السياسية البديلة.
والنظام الاستبدادي (إذا نجح) يصبح الثمن الذي يدفعه المجتمع المعقد مقابل تجميد الوضع على ما هو عليه ومنع الأزمات والحفاظ على الدولة، لا سيما الدولة المصطنعة.
في الوقت نفسه، يتناقض هذا كله مع الصورة ومعيار “الديمقراطية” الذي ترسمه لنا الصحافة الغربية وهوليوود.
والإحجام النشط للشعوب عن العيش في مجتمع مستقر، لكنه لا يلبي المثل العليا الخيالية، يؤدي إلى الشروع الفوري في تزكية الصراعات والأزمات المحتملة في مجتمع معين، والتي أمضت المجموعات العرقية الناجحة قرونا لتجاوزها تدريجيا.
فالناس، تحت تأثير الأوهام والأمل في تحقيق ما يريدون الآن وهنا، ودون توفر الشروط اللازمة لذلك، ينتهي بهم الأمر إلى حروب أهلية، وإلى انهيار للبلاد، بمشاركة قوى خارجية في أغلب الأحيان، بما يتبعه ذلك في كثير من الأحيان من ملايين اللاجئين والوفيات. وفي كل الأحوال، يصاحب ذلك انخفاض كبير في مستويات المعيشة، على خلفية انهيار البلاد، والذي سيؤدي على الأرجح إلى تدهور في مستوى معيشة الأحفاد أيضا.
وعلى المدى المتوسط، فهناك احتمال أن يؤدي استقرار الأنظمة الاستبدادية إلى نجاح اقتصادي، من شأنه أن يخفف من التناقضات إلى حد ما. وعلى المدى الطويل، فهناك احتمال لأن تؤدي عمليات الاستيعاب إلى خلق مجتمع متجانس إلى حد ما، يتغلب على اصطناعه السابق. ولكن، وعلى أي حال، فإن المرحلة الأولى تنطوي على درجة أكبر من القمع.
لكن، من حيث مستوى الوعي السياسي، فإن الشعوب أطفال. وبرغم كثرة الأمثلة السلبية، إلا أنهم، وتحت تأثير الرغبات الطفولية، يختارون مرارا وتكرارا تدمير الذات، والفوضى، والتي يكون الخروج منها، إذا حالفهم الحظ، عبر نظام استبدادي جديد يمكن أن يبدأ تطبيع الأمور على مستوى معيشي أقل بكثير.
كل هذا جزء من أزمة الديمقراطية كنموذج. وفكرة قوة الشعب تخلق لدى الناس شعورا بالقدرة المطلقة، بما في ذلك القدرة على تجاوز القيود الموضوعية.
جانب آخر من أزمة الديمقراطية كنموذج هو ضرورة وحتمية الشعبوية، عندما يضطر السياسيون إلى تحقيق جزء على الأقل من الرغبات غير الواقعية للشعب، وهو ما يؤدي عادة إلى تضخم الإنفاق الحكومي وهرم الديون والأزمة الاقتصادية التي نشهدها في العالم.
والأسوأ من ذلك حينما يشارك السياسيون أنفسهم بصدق أوهام الجماهير ومفاهيمهم الخاطئة، وهو ما يحدث عادة بين السياسيين والشخصيات العامة الروسية والعربية، لا سيما من تشرق شمسهم من الغرب.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة “تليغرام” الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب