مع ذلك، في الأيام الأخيرة أغرقتنا تصريحات متناقضة وأحيانا متعارضة من أعضاء فريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن القضية الأوكرانية. بالأحرى، كانت التصريحات الأكثر تناقضا تتعلق بدرجة التشدد، أو على العكس من ذلك، التقارب مع روسيا. فقد خلق ترامب وفانس وكيلوغ وويتكوف وهيغسيث فوضى مطلقة من خلال تقديمهم لأفكار ترامب كما فهموها، مضيفين إليها تغييراتهم وتشوهاتهم الخاصة، ما يعكس حالة من الارتباك العام وتوجه فريق ترامب في البحث عن مخرج في ظل غياب فهم واضح للوضع.

وتفاقمت الأمور بسبب رفض موسكو لكيلوغ كمفاوض، بحسب مصادر أوكرانية، بسبب تورط ابنته في المساعدات المقدمة لأوكرانيا وموقفه المتشدد. وتقضي خطته، حال رفضت موسكو، بالضغط عليها بأقصى قدر ممكن حتى تستسلم. النتيجة هي أن ترامب أصبح لديه الآن ممثلان لأوكرانيا: ويتكوف لموسكو وكيلوغ لكييف وأوروبا.
وليس ذلك خطأ كيلوغ. فخطته التي تقضي بممارسة أقصى قدر من الضغط على موسكو حال رفضها، سيئة لا لأن الضغط مستحيل التنفيذ، بل لأنها لن تؤدي إلى النتيجة التي يريدها ترامب. وهو ما يعني أن المواجهة مع روسيا، بدلا من إخراج موسكو من اللعبة، ستصبح الشغل الشاغل الرئيسي والوحيد لترامب خلال الأعوام القليلة المقبلة، أي طوال فترة ولايته، بينما لدى ترامب خطط أخرى، لا تشغل فيها لا روسيا ولا أوكرانيا حتى القضايا الخمس الرئيسية. ومأساة كيلوغ تكمن في أنه لا توجد وسيلة لإرغام موسكو على الخروج من اللعبة بشروط مقبولة لترامب.
يعني ذلك، في رأيي المتواضع، أن المفاوضات من هذا المنظور محكوم عليها بالفشل، بالأحرى يمكن للمفاوضات الفردية كمرحلة أن تحقق بعض النتائج، لكن التسوية النهائية بين روسيا والغرب مستحيلة من دون هزيمة أحد الطرفين. ترامب يطلب المستحيل من كيلوغ: خطة عمل لخروج الولايات المتحدة من الحرب بأوكرانيا.

وليست خطة كيلوغ بأسوأ من أي خطة أخرى، ستكون جميعها غير قابلة للتنفيذ بنفس القدر، حيث يوضح رفض موسكو التعامل مع كيلوغ ما سيحدث لمقترحات ترامب الأخرى في المستقبل القريب. فلن ترضى موسكو سوى بما لا يستطيع ترامب فعله، على الأقل في الوقت الراهن: انسحاب حلف “الناتو”، بادئ ذي بدء، من أوكرانيا، ثم، وعلى الأرجح، من أوروبا الشرقية. وحتى لو افترضنا أن بوتين، لأسباب تكتيكية، سيوافق على تجميد مؤقت (الأمر الذي أشك فيه)، فإن الغرب، أو على الأقل أوروبا، سيستمر في ضخ الأسلحة إلى أوكرانيا، وستستأنف الحرب في غضون عام أو عامين. لقد أصبح الوضع في طريق مسدود تماما، ولا يوجد أي مخرج يناسب الطرفين.
وأقصى ما يمكن أن يحققه ترامب، والذي يتوافق بطريقة ما مع خططه، هو الانسحاب الأمريكي من حلف “الناتو”، ليس الآن، ولكن مع مرور الوقت، بينما تستمر الحرب في أوكرانيا، وهو ما سيؤدي تلقائيا إلى رفع الإنفاق العسكري الأوروبي إلى مستويات أعلى من نسبة الـ 5% من الناتج المحلي الإجمالي التي يطالب بها ترامب. لكن هذا أيضا على الأرجح سوف يسفر عن هزيمة للولايات المتحدة في أوكرانيا، وهو أمر غير مقبول بالنسبة لكثيرين هناك.

والآن، قبل المفاوضات، بحسب تلميحات من مصادر أوكرانية، فإن خطة ترامب الأكثر تفصيلا، والتي تناسب لندن، هي استبدال زيلينسكي بزالوجني، القائد العام السابق للقوات المسلحة الأوكرانية والسفير الحالي لأوكرانيا لدى بريطانيا. في الوقت نفسه، من المفترض أن يتم تجميد الصراع، وأن أوكرانيا ستحافظ على توجهاتها المؤيدة للغرب، وسيتم ضخها بالأسلحة. وربما لا يكون هذا أكثر من قائمة آمال من الجانب الأوكراني، أو قد يكون أمرا من ترامب وصل إلى الأوكرانيين مع تشوهات بسبب عدد من النقاط الوسيطة.
على أية حال، ووفقا لهذه الخطط، يتعين على زيلينسكي أن يرحل. وعلى هذه الخلفية، دخل زيلينسكي في حالة يقارنها البعض بانسحاب الهيروين، بينما تزوغ عيناه، ويرتعش رأسه، ويتحدث على نحو غير متماسك وبسيط. ربما يكون هذا مجرد انهيار عصبي، لكن، ومهما كان ما يخفيه هذا السلوك، فقد رفض زيلينسكي التوقيع على اتفاق مع الولايات المتحدة من شأنه أن ينقل السيطرة على نصف الموارد المعدنية في أوكرانيا إليها، ويملي على ترامب، بصفاقة، تلامس الوقاحة، كيفية التفاوض مع روسيا، وأهداف الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا.
تعافت أوروبا كذلك من الصدمة الأولية، وتتخذ موقفا متشددا بشكل متزايد ضد ترامب، بما في ذلك الإعلان عن تسليم أسلحة جديدة لأوكرانيا ودعم زيلينسكي والحرب حتى النصر.
ربما أكون أنا أيضا واقع في فخ التفكير المتفائل Wishful Thinking كما يقول الأمريكيون، لكن يبدو لي أنه في ظل هذه الظروف، فإن المفاوضات الأمريكية الروسية المقبلة لا يمكن أن تحقق أية نتائج. بمعنى أصح، يمكن أن تنجح هذه الخطوات في بعض الاتجاهات ويمكنها أن تؤدي إلى تحسين النبرة والمستوى العام للعلاقات الروسية الأمريكية، لكنها ستؤدي إلى تصعيد الحرب في أوكرانيا بدلا من تجميدها.

ويبدو لي أن أوكرانيا تأتي في مرتبة أدنى على قائمة أولويات ترامب مقارنة بتغيير الأنظمة الليبرالية اليسارية في أوروبا، لأن الأخيرة مرتبطة بالهدف الرئيسي لترامب وهو تغيير اتجاه التنمية في الولايات المتحدة، وهو أمر مستحيل بدون تحييد العولميين على المدى الطويل في كل من أوروبا والولايات المتحدة. وأهداف السياسة الداخلية لترامب ستستغرق عقودا من الزمن حتى يتم تنفيذها.
وفي هذا الصدد، بدأت بالفعل مواجهة ترامب مع أوروبا اليوم، ويبدو تصعيدها أمرا لا مفر منه. وهذا من شأنه أيضا أن يجعل من السهل على ترامب الانسحاب من حلف “الناتو” بعد مرور بعض الوقت، إذا كانت لديه مثل هذه الخطط حقا، وإذا تضمنت التسوية الروسية الأمريكية المحتملة مثل هذا البند. ومغادرة أوكرانيا على هذه الخلفية ليست قضية كبيرة، وإنما القضية هي كيفية تحقيق ذلك مع الحد الأدنى من الضرر لسمعة الولايات المتحدة وترامب.
هذا فيما أرى هو الوضع على الأرض، لكن ترامب يحاول أن يبيع لبوتين شيئا سيضطر إلى منحه إياه مجانا بعد قليل.
وكما قلت، أنا شخصيا غير متأكد بنسبة 100% أن هذا هو الحال بالضبط. بل إن هذا، في رأيي، هو السيناريو الأكثر احتمالا للتطورات المقبلة. لكن لا توجد ضمانات بما في ذلك لأن الجمود كبير للغاية، كما تظهر خطة كيلوغ، وقد يستسلم ترامب لإغراء ممارسة أقصى قدر من الضغط على موسكو من أجل تحقيق التجميد، الذي يحتاج إليه بشدة، في أوكرانيا. ومن ثم سيصح الوضع أكثر خطورة على جميع سكان كوكب الأرض.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة “تلغرام” الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب