نشر الكاتب البريطاني ديفيد هيرست مقالا طويلا ذكرهة فيه أوجه الشبه بين إسرائيل والصليبيين عبر التاريخ من حيث الأساليب والمطامح.
ولم يستبعد هيرست في مقاله أن السلوك الإسرائيلي سيقود في نهاية المطاف إلى ذات النهاية التي تجرعها الصليبيون في الشرق.
ورغم أن المقال أو مقدمة الطبعة الجديدة من الكتاب كتبت قبل السابع من أكتوبر الماضي، إلا أن الكاتب لم يغير في مضمونها عند نشرها سوى جملة واحدة، مؤكدا أنها “لا تزال تعبر عن الواقع، في إشارة إلى أن سلوك إسرائيل الإجرامي سيؤدي أكثر فأكثر إلى نزع الشرعية عنها وسيجعل فرصة نيلها مصير الصليبيين في الشرق أكبر”.
”القلق الصليبي”..
ويقول الكاتب إن “الإسرائيليين يرفضون بسخط “التهمة السائدة” الموجهة إليهم في مختلف أرجاء العالم التي تقول بأنهم صليبيو هذا الزمن، لكنهم يرفضون التهمة انطلاقا من اعتبارات معنوية لا غير، باعتبار أن قضيتهم “أي عودة الشعب المنفي والمنكل به إلى وطنه التاريخي” لن يتم في حال مقارنتها بغزو للمتشددين من أتباع الكنائس في القرون الوسطى”.
ولكنهم، ولأسباب واضحة، يعيرون اهتماما خاصا بتاريخ الصليبيين وبتجربتهم، ولا أدل على ذلك من أنهم أقاموا في إسرائيل مركزا هاما يختص بدراسة الصليبيين، ما من شك في أن ما يطلق عليه العالم المختص ديفيد أوهانا مصطلح ”القلق الصليبي”، أو “التخوف المرضي الخفي” من أن “المشروع الصهيوني” قد “ينتهي إلى دمار” شامل، تماما كذلك الذي حصل مع الأسلاف الصليبيين قد غدا جزءا لا يتجزأ من الحالة النفسية الإسرائيلية أو على أقل من الحالة النفسية لأولئك الذين لديهم وعي كامل بهذه التطابقات التاريخية الخطيرة.
ومن ضمن تلك التشابهات، من حيث الأهمية المبدئية لدى الصليبيين والصهاينة على حد سواء تحقق المهارة العسكرية العالية وضمان الدعم من القوى الأجنبية.
ويرد الكاتب: “في حالة الصليبيين، وطوال 192 عاما قضوها في الأرض المقدسة، كان الدعم يأتيهم بشكل رئيسي على هيئة موارد لا تنضب من الصليبيين الجدد يقودهم الملوك والأمراء وكبار النبلاء في أوروبا الإقطاعية”.
وفي حالة الإسرائيليين “يأتي الدعم على شكل مساعدات عسكرية سنوية تصل إلى ما يقرب من ثلث ما تقدمه واشنطن من مساعدات إلى العالم قاطبة وعلى هيئة دبلوماسية متحزبة بالغة الإسراف التي تغدقها عليهم القوة العظمى الأمريكية”.
وقال: “لقد كان التراجع فيما كان يرد من دعم خارجي وليس فقدان المهارة العسكرية هو ما أدى في نهاية المطاف إلى سقوط الصليبيين، ويمكن أن يحصل الشيء نفسه مع الإسرائيليين كذلك”.
الخطيئة الأصلية..
ويضيف الكاتب: “خذ بالاعتبار أفعال إسرائيل الأولى في مرحلتها التكوينية الأهم والمشابهة في مدى إهلاكها وشناعتها لما صدر عن الصليبيين من أفعال أو ما يمكن أن يوصف بأنه “خطيئتها الأصلية”، والتي يعود الفضل في وجودها اليوم إليها. وفي عام 1099، قامت مملكة القدس المسيحية على أنقاض ما نجم عن واحدة من ”أعظم الجرائم في التاريخ”، تلك المذبحة التي ارتكبت بحق جميع سكان المدينة المقدسة من مسلمين ويهود، بعد ثمانية قرون ونصف في الفترة بين عامي 1947 وحتى العام 1948، ولدت إسرائيل من خلال “جريمة ضد الإنسانية” تشبه ذلك من حيث الجسامة والفظاعة أو لنقل على الأقل إنه لو كانت مادة القانون الدولي الخاصة بذلك الجرم مفعلة آنذاك، ولو كان يتوفر لدى أحد الإرادة للمطالبة بتطبيقها، لكان مؤكدا أن النكبة الفلسطينية والتطهير العرقي والطرد، باستخدام القوة والإرهاب وكثير من الفظائع التي مورست ضد تلك “المجتمعات غير اليهودية” – كانت ستعتبر جريمة ضد الإنسانية بالفعل”.
وتابع: “وكذا أثبت الإسرائيليون أنهم مثل الصليبيين تماما، لقد أمضى فرسان مسيحية القرون الوسطى 192 سنة وهم يخوضون باستمرار المعركة تلو الأخرى مع هذه أو مع تلك المملكة أو السلطنة في الشرق الأوسط العربي المسلم، والذي كان حينذاك كما هو اليوم يعاني من التمزق والشقاق الداخلي، إلى أن فقد الصليبيون الدعم الغربي فانتهى بهم الأمر وقد ألقي بهم حرفيا إلى البحر. وكذلك تماما كان ديدن الإسرائيليين، الذين يخوضون منذ 75 عاما وحتى الآن ما تطلق عليه عقيدتهم العسكرية الرسمية “الحروب” أو وهم يشنون ”الحملات ما بين الحروب”.
الغزو والتوسع.
بادئ ذي بدء – بالنسبة للصليبيين والإسرائيليين على حد سواء – كانت مثل تلك الحروب حروبا غايتها الغزو أو التوسع.
ما إن تُوج بالدوين دو بويلون أول ملك على القدس، في يوم عيد الميلاد من عام 1100 ميلادية، حتى انطلق في حملة لتوسيع رقعة مملكته الصغيرة والتي شملت في نهاية المطاف كل فلسطين كما نعرفها اليوم وأجزاء من سوريا والأردن ولبنان، كذلك، والتي أحاطت نفسها بتحصينات أمامية منيعة وبمستوطنات عسكرية زراعية، ما أشبهها اليوم بالجدران الحدودية الضخمة التي تشيدها إسرائيل وما فتئت على إقامتها من قرى (كيبوتسات) زراعية وقتالية.
كان ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء في إسرائيل، عازما على التوسع أيضا وهو توسع ينبغي إنجازه، كما قال ذات مرة، ليس عبر “التجمل بالأخلاق” أو من خلال “الخطب التي تلقى من على جبل الهيكل” وإنما بواسطة ”المدفع الآلي الذي سوف نحتاج إليه.”
ولكن بخلاف ما كان يمارسه أسلافه، الذين لم يعرفوا أي شيء من تلك اللطائف مثل قواعد وأخلاق الحرب، لم يكن بوسعه ممارسة الغزو والتوسع في البلدان المجاورة كما يريد، فهو ينتسب إلى أمة “تحب السلام”، حصلت لتوها، رغم ما وقع حينها من جدل وخلاف حول ذلك، على عضوية الأمم المتحدة، متعهدة بالالتزام بميثاقها.
ولا كان ذلك متوقعا من دولة ديمقراطية على درجة عالية من التفوق الأخلاقي، تعتبر نفسها “نورا يضيء على الأمم”، والتي قال بن غوريون مخاطبا العالم إنه يعمل في بنائها وهي التي استقبلها معظم العالم، وبشكل خاص الليبراليون واليساريون فيه بكثير من الترحيب والتعاطف على اعتبار أنها نموذج للمثل الاشتراكية “الملهمة” والتي يحتل الكيبوتس القلب منها.
كان بن غوريون ومن جاءوا من بعده يتوقون لأن يبادرهم الآخرون بهجوم، في هذه الأثناء، كل ما كان بإمكانهم فعله هو الانتظار وتحين الفرص أو السعي لاصطناعها من أجل مباغتة هؤلاء الآخرين بهجوم، وهي فرص بالغة الأهمية من حيث أنها تمكنهم من شن الهجوم متسترين بغطاء شرعي من ”الدفاع عن الذات.”
وحانت الفرصة المواتية أخيرا في شهر يونيو 1967 عندما بدأت الجيوش العربية بالسير نحو إسرائيل ردا على تحرشات واستفزازات من قبلها، وذلك في خضم صخب أحمق ومخيف من الخطاب الحربي. للوهلة الأولى ارتعد العالم خوفا على إسرائيل، متسائلا: هل سنشهد فيها محرقة ثانية بعد مرور خمسة وعشرين عاما فقط على المحرقة الأولى؟
هذا محال بالطبع، فكما كان مستشرفا وكما تم الإعداد له منذ وقت طويل انبرى للتعامل مع ذلك بشكل مباشر موشيه دايان الجنرال الأيقوني الأعور وغيره من حواريي المعلم، فقد أنجزوا في حرب الأيام الستة في يونيو 1967، بضربة واحدة أهدافا مماثلة تماما من الناحية الاستراتيجية والتوسعية، لتلك التي استغرق إنجازها عشرين عاما على يد الملك بالدوين قبل ذلك بـ8 قرون، أضف إلى ذلك احتلال سيناء بأكملها كما أنهم نفذوا نكبة مصغرة بما تحقق لهم من موجة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين.
وحتى هنا لم يصدر العالم حكمه على إسرائيل بل على العكس ارتقت بذلك ”محبوبة الغرب المدللة” إلى مستويات رفيعة غير مسبوقة من المكانة والشعبية.
الحكم على المشروع الصهيوني..
بالعودة إلى أوجه التشابه مع الصليبيين وجد الإسرائيليون أنفسهم يسوسون سكان البلاد الأصليين والمكونين ممن لم يقتلوهم ولم يطردوهم وإذا بهم يكافئونهم تعدادا.
قلما يخفق مؤرخو الحقبة الصليبية في الاقتباس من الرحالة المسلم ابن جبير في القرن 12، وبشكل خاص توصيفه للمجتمع المسلم الذي “ينوح بسبب ظلم صاحب الأرض من نفس دينهم بينما يشيدون بسلوك خصمه وعدوه، صاحب الأرض من الفرنجة، الذي تعودوا منه أن يعاملهم بالعدل.”
لعل هذا هو الدليل القوي المتبقي من شهادة من رأى رأي العين أنه مهما كان الصليبيون همجا ومتوحشين في المعركة، إلا أنهم ربما لم يكونوا سيئين في الحكم أو على الأقل في ما يتعلق بابتعادهم عن إنفاذ أعراف ذلك الوقت.
هل يمكن أن يقال نفس الشيء أو أفضل منه عن الإسرائيليين إزاء غزوهم واحتلالهم للضفة الغربية وقطاع غزة في الزمن الحاضر؟ من الناحية الموضوعية، لا يمكن ذلك، ولكن هكذا كان الانطباع العام، لأن الإسرائيليين، من طرفهم، ما فتئوا يصرون على أن احتلالهم كان “أرحم احتلال في التاريخ”، وهو الزعم الذي لم يخطر ببال العالم المستهتر التحقق منه.
فمتى كانت المرة الأولى التي يضع العالم فيها المشروع الصهيوني على المحك ويحكم عليه بعد أن احتضنه وتقبله بلا نقد أو مساءلة زمنا طويلا؟، كما تنبأ وايزمان جاءت اللحظة التي حكم العالم فيها على المشروع حتى وإن جاءت بعد عقود من إشارته إلى ذلك.
العيش بحد السيف..
جمع الإسرائيليون كل هذه الإجراءات ووضعوها تحت عنوان واحد وهو “نزع الشرعية” بالنسبة لهم، يرقى نزع الشرعية في نهاية المطاف إلى التهديد الوجودي وهو ليس أقل خطرا، طبقا لما صرح به نتنياهو من تسلح إيران نوويا أو من صواريخ حماس وحزب الله.
لماذا؟ لأنه لو كان مكتوبا على إسرائيل كدولة أن تعيش بحد السيف، كما تحدث عن ذلك نتنياهو فإنها لن تتمكن من تصميم ذلك السيف ولا الحفاظ عليه وإشهاره بفعالية بدون دعم ورضا واشنطن والغرب، تماما كما أن الصليبيين لم يكن بوسعهم فعل ذلك بدون دعم ورضا البابوية والعالم المسيحي في القرون الوسطى.
ومن هنا فقد ألزمت الولايات المتحدة بالقانون بالاستمرار في تزويد إسرائيل بكل “وسائل التفوق العسكري الممكنة” حتى تتمكن من “دحر أي تهديد عسكري يأتيها من أي دولة بعينها أو ائتلاف محتمل بين مجموعة من الدول.”
الأسلحة نفسها أمر واحد فقط، وهناك أمر آخر ألا وهو الطريقة التي تستخدم بها إسرائيل تلك الأسلحة، وضمان أنه مهما كان هذا الاستخدام محرما من حيث الغاية أو إجراميا من حيث التنفيذ، فإنه يمكن بستمرار الاعتماد على الولايات المتحدة دعما أو إقرارا.
ومن هنا يأتي إشهار واشنطن بشكل تلقائي وآلي لسيف الفيتو في وجه أي مشروع قرار، وهو الأمر الذي تكرر عشرات المرات عبر السنين، حتى ضد القرارات التي تضمنت نقدا خفيفا لإسرائيل في الأمم المتحدة وهو نفس الكيان الذي تدين له بالفضل، في حالة تكاد تكون فريدة بين الأمم، على إيجادها في المقام الأول ومعه بالطبع “الشرعية” التي يسعى العالم الآن إلى نزعها عنها كما تخشى.
ما من شك في أنها سوف تستمر في فعل ذلك بوتيرة متنامية على الدوام ففي كل مرة يقوم فيها “الجيش الأسمى أخلاقا في العالم بدفن النساء والأطفال أحيانا رفقة “إرهابي” أو اثنين تحت البيوت في غزة، وفي كل مرة يصرح سياسي رفيع المستوى أو حاخام بعبارات عنصرية مذهلة أو بعبارات يتجمد لها الدم في العروق حول العرب أو الفلسطينيين، وفي كل مرة ينطلق فيها المستوطنون المتدينون ليرتكبوا “مقتلة”، أو ليشنوا حملة لاجتثاث أشجار الزيتون أو في محاولة لإشعال النار ببلدة عربية بأسرها، بينما يؤدون الصلاة وهم على ذلك فإن الضغط يزيد.
وبالفعل، فإنه في كل مرة يصعد متطرف ديني أو قومي إلى الحرم الشريف، المكان الذي يوجد فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ويلقي خطبة نارية حول ابتعاث الهيكل اليهودي القديم مكانهما في كل مرة يحدث مثل هذا الأمر، ويسمع العالم عن ذلك، فإن “الدولة اليهودية والديمقراطية” تفقد قدرا إضافيا من شرعيتها.
من الواضح أن أقرب أصدقائها يبادرون بتحذيرها، فهذا الكيان “المحبب والمدلل لدى الغرب” يجازف بالتحول إلى كيان “منبوذ” في مصاف دول مثل عدوه اللدود، الجمهورية الإسلامية في إيران.
ونعم، من خلال تدينها المستفحل، صارت الدولة في الواقع تبدو أقرب إلى الصليبيين أنفسهم تسير على نهجهم ليس فقط من حيث الأسلوب الحرب المستمرة بل وكذلك من حيث التطلعات، ومن بين هذه التطلعات يبرز واحد أكثر من غيره باعتباره نموذج الشبه الأقرب على الإطلاق.
بالنسبة لأولئك القدامى من “المحاربين في سبيل الإله”، كانت أسمى المهام والأكثر قدسية من وجهة نظرهم هي استنقاذ كنيسة القيامة – الموقع الذي يعتقد المسيحيون أن المسيح صلب فيه، وفيه دفن، ومنه بعث حياً من جديد – من ”إفساد” وإهمال المسلمين.
على نفس النهج، بالنسبة لعدد غير معروف، ولكنه آخذ في النمو، من الإسرائيليين الذين خلفوهم ولا يقتصر ذلك على المتدينين منهم لا تكتمل العودة إلى صهيون إلا بقيام الهيكل الثالث، إلى جوار الأقصى وقبة الصخرة، أو محلهما بدلاً منهما، هنا في ثالث أقدس بقعة عند المسلمين.
فهل سيدرك العالم أخيراً عندما يفيق من غفوته ما الذي جلبه هؤلاء على الأرض وعلى الناس في المنطقة بعد ثلاثة أرباع قرن من تلك اللحظة التي تنبأ فيها وايزمان بأن العالم سوف يحكم على إسرائيل، وهل سوف ينأى بنفسه عن الدولة أو يتبرأ منها، تاركاً إياها للمصير الذي باتت منكشفة عليه؟
وختم قائلا: “في ضوء “القيم” الحديثة، سوف يكون لدى الولايات المتحدة والغرب من المبررات ما هو أقوى مما كان لدى البابوية والعالم المسيحي في القرون الوسطى حينما تخليا عن الصليبيين في ضوء ما كان لديهم آنذاك من قيم. إنه لأمر مستبعد بلا ريب. ولكن كلما أمعنت إسرائيل في “نزع الشرعية” عن نفسها في عيون العالم – وهي تفعل ذلك في غزة الآن – كلما تضاءل ذلك الاستبعاد، وكلما زادت إمكانية تحقق الكابوس الذي تحدث عنه أستاذ الحروب الصليبية أوهانا، والذي توقع أن يكون مصيرها مشابهاً لمصير الصليبيين أنفسهم. بالطبع لن يُلقى بها إلى البحر، ولكن، بطريقة أو بأخرى، سوف يتم حسم المصير استراتيجيا أو عسكريا أو دبلوماسيا”.
المصدر: RT
Source link