وجاء في المقال المنشور على الموقع:
مع انتشار الفوضى التي تسود عالم اليوم متعدد الأطراف وتصاعد التوترات الجيوسياسية، ينبغي للولايات المتحدة أن تفكر بجدية في كيفية التعامل مع هذا العالم.
أثناء اجتماع زعماء مجموعة “بريكس+” للاقتصادات الناشئة في قازان، بروسيا الشهر الماضي، كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في الشرق الأوسط للمرة الحادية عشرة منذ 7 أكتوبر 2023. الرمزية صارخة.
فبينما تغرق الولايات المتحدة في حرب أخرى بالشرق الأوسط، حرب تقلل من مصداقيتها وقيادتها العالمية، تشرع الصين وروسيا في المراحل الأولى من بناء بدائل للهياكل المالية والأمنية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة. وتتحرك أشرعة مجموعة “بريكس” برياح العالم المتعدد الأقطاب الناشئ في ظهرها، فيما رحبت المجموعة بمصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة في بداية عام 2024، وأضافت ثلاثة عشر دولة شريكة جديدة في قمة قازان، وأعربت عشرات الدول الأخرى عن اهتمامها بالانضمام.
ومع تصاعد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، يتعين على واشنطن أن تأخذ في الاعتبار ما يدفع البلدان إلى الانضمام إلى مجموعة “بريكس+” التي ترغب بكين وموسكو في وضعها كمجموعة معادية للغرب. لكن النبأ السار لواشنطن هو أن بلدان “بريكس+” الأخرى، والمتقدمين بطلبات الانضمام لا يرون الأمر على هذا النحو بالضرورة حتى الآن. فالبرازيل والهند، هما دولتان مؤسستان، وتنظران إلى مجموعة “بريكس+” باعتبارها وسيلة لإضفاء الطابع الديمقراطي على النظام الدولي القائم وإدخال تغييرات داخل هذا النظام لجعله أكثر قدرة على معالجة التحديات العالمية اليوم. ولا تنظران إليها كجزء من استراتيجية Rest against the West، “البقية ضد الغرب”. والواقع أن عددا من بلدان الجنوب العالمي تفضل علاقاتها مع واشنطن، لكنها، في الوقت نفسه، تريد الانضمام إلى مجموعة “بريكس+”. ومع ذلك، قد يتغير كل هذا إذا لم تأخذ واشنطن التعددية القطبية العالمية على محمل الجد.
وترى بلدان الجنوب العالمي أن النظام “المستند إلى القواعد” الذي تقوده الولايات المتحدة يتصدع من جوانبه، وهو ما يتجلى بشكل واضح في مواقف واشنطن المتناقضة بشأن الحربين في أوكرانيا وغزة. وبالنسبة لهذه البلدان، فإن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة هو لعبة مخادعة، يتم فيها فرض القوانين والمعايير الدولية بما يتناسب مع مصالح الغرب.
من القضايا الرئيسية الأخرى التي تواجه دول مجموعة “بريكس” ودول الجنوب العالمي هيمنة واشنطن على البنية المالية العالمية واستخدامها الواسع النطاق للعقوبات. وقد حددت روسيا أجندة لقمة هذا العام تركز بشكل كبير على تجنب سلطة الدولار الأمريكي، وعزل نفسها والدول الأخرى عن العقوبات الغربية، وبناء هياكل مالية بديلة. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القمة: “لسنا نحن الذين نرفض استخدام الدولار. ولكن إذا لم يسمحوا لنا بالعمل، فما عسانا أن نفعل؟ نحن مضطرون للبحث عن بدائل”.
الواقع أن ما يقرب من واحد من كل أربعة بلدان، ما يمثل 30% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، يخضع لعقوبات أمريكية. وقد أوضح تقرير، نشرته صحيفة “واشنطن بوست” هذا العام بالتفصيل كيف أطلقت العقوبات الأمريكية “حربا اقتصادية في مختلف أنحاء العالم”. ومن المؤكد أن دولا مثل روسيا لا بد أن تواجه عقوبات انتهاكها للقانون الدولي، لكن العقوبات غالبا ما تأتي بنتائج عكسية. على سبيل المثال، أدت العقوبات المفروضة على فنزويلا إلى زيادة الهجرة، وزيادة عدد الفنزويليين الذين يحاولون دخول الولايات المتحدة، كما دفعت دولا مثل الصين وروسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية إلى إنشاء ما اعتبرته صحيفة “وول ستريت جورنال” “اقتصاد ظل عالمي” للتهرب من هذه العقوبات بطرق قد تقوض الدولار الأمريكي بشكل متزايد.
ولا بد أن يثير الإعلان المشترك الصادر عن القمة القلق لدى صناع السياسات في الولايات المتحدة، حيث دعا إلى إصلاح مالي عالمي، وإنشاء منصة استثمارية جديدة لمجموعة “بريكس+” واستكشاف بدائل لأنظمة الدفع عبر الحدود الغربية مثل “سويفت”. وقد قطعت مجموعة “بريكس+” بالفعل أشواطا كبيرة في الحد من استخدام الدولار في التجارة داخل المجموعة. وقادت الصين هذه الجهود، حيث تفوقت عملتها الرنمينبي على الدولار الأمريكي في التجارة بين الصين وروسيا. كما تتفاوض بكين على زيادة استخدام اليوان الصيني لتسوية المعاملات النفطية مع كبار المنتجين، وتبيع أصولها المقومة بالدولار الأمريكي وتشتري مستويات قياسية من الذهب.
قد تبدو عملية التخلص من الدولار De-dollarization طويلة الأمد، ولكن نظرا للتداعيات العميقة التي قد تترتب على هذه العملية على المصالح الأمريكية، فيتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة أن ينتبهوا إلى هذه القضية عن كثب. ذلك أن الدور البارز الذي يلعبه الدولار كعملة احتياطية وفي التجارة العالمية للسلع الأساسية يمنح الولايات المتحدة ومواطنيها “امتيازات كبيرة”، ليس فقط على مستوى النفوذ الهائل والسيطرة على العلاقات الدولية، وإنما يعني كذلك أن المواطنين الأمريكيين يتمتعون بتكاليف اقتراض أقل، وقدرة على الوصول إلى الواردات الرخيصة، ومستوى معيشة أعلى بشكل عام.
يشير منتقدو “بريكس” في كثير من الأحيان إلى أن المجموعة لم تحقق الكثير، إلا أن هذا لا يعني أن المجموعة لا تكتسب أهمية متزايدة، حتى ولو على المستوى الرمزي في الوقت الراهن. وبوسع واشنطن أن تعمل مع الدول الشريكة في مجموعة “بريكس” على كبح المشاعر المناهضة للولايات المتحدة التي تسعى الصين وروسيا إلى تأجيجها. ويتعين على واشنطن أن تنظر في الأسباب التي تدفع عددا من العواصم إلى البحث عن بدائل للزعامة الأمريكية، والأهم من ذلك الدولار الأمريكي، وأن تسعى إلى معالجة مخاوف تلك الدول عندما يكون لديها قضية مشتركة.
لقد آن الأوان كي تعترف واشنطن بأن لحظة القطب الواحد، التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة، قد انتهت، وأن التحديات العالمية اليوم، من تغير المناخ إلى الأوبئة إلى تنظيم الذكاء الاصطناعي، تتطلب تعاونا دوليا، وليس فقط من قبل الغرب. ومع الفوضى التي تسود النظام المتعدد الأطراف وتصاعد التوترات الجيوسياسية، ينبغي على الولايات المتحدة أن تفكر بجدية في كيفية التعامل مع عالم اليوم متعدد الأقطاب. وبوسع قادة الولايات المتحدة أن يبدأوا بما لم يعد يعمل: السعي المتزايد للتفوق، والاعتماد الانعكاسي على العقوبات، وازدواجية المعايير التي تستخدمها واشنطن في التعامل مع القوانين والأعراف الدولية، واستخدام ذلك كخارطة طريق لإعادة صياغة نهج الولايات المتحدة في التعامل مع الشؤون الدولية.
هذا هو الأفضل للعالم، وهو الأفضل للأمريكيين.
المصدر: The National Interest
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب