جاء ذلك في لقاء جونسون بالإعلامي الأوكراني الشهير دميتري غوردون بقناته الرسمية على موقع “يوتيوب”، الموقع الذي حجب جميع وسائل الإعلام الروسية الرسمية وغير الرسمية وأي قناة تصل مشاهداتها إلى أرقام مؤثرة وتعرض وجهة نظر تختلف عن وجهة النظر الغربية المعتمدة رسميا.
افتتح غوردون برنامجه بالقول إنه “سئم هذا البوتين” لدرجة أنه يعجز حتى عن “النظر إلى سحنته”، وسأل جونسون عن رأيه. فانبرى جونسون والحديث منقول نصا:
“أوافقك في ذلك. بل وأبعد من هذا، لماذا نتحدث عنه بالأساس. دعنا ننساه. لنتحدث عن أوكرانيا. إن ما يهمني حقا هو أمن وحرية واستقلال أوكرانيا. وسنضمن ذلك عندما يتوقف الجميع عن الهوس بالدراما النفسية التي يطرحها فلاديمير بوتين. فلنتركه وشأنه، نحن بحاجة لحماية أوكرانيا، يتعين علينا أن نشرع في ضم أوكرانيا إلى حلف (الناتو)، ويجب أن نمنح أوكرانيا حزمة ضخمة من المساعدات المالية في إطار نظام على غرار (الإعارة والتأجير) Lend-Lease بمبلغ 500 مليار أو حتى تريليون دولار، ويجب علينا إمداد أوكرانيا بكل الأسلحة اللازمة”.
إلى هنا ينتهي النص، الذي دفعني على الفور إلى العودة إلى تسجيل وزيرة الخارجية السابقة، البريطانية أيضا، إليزابيث تراس، والتي أصبحت فيما بعد رئيسة للوزراء زهاء 50 يوما من 6 سبتمبر 2022 وحتى 25 أكتوبر 2022، حينما طلب منها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال لقائهما في فبراير 2022، مباشرة قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، الاعتراف بمنطقتين روسيتين هما روستوف وفورونيج، وتقعان شرق الحدود الروسية الأوكرانية لعام 2022، على الجانب الروسي، فنفت وزيرة الخارجية البريطانية تراس الاعتراف بهاتين المنطقتين مناطق روسية ظنا منها، فيما يبدو، أنها مناطق أوكرانية، ثم قام السفير البريطاني لدى موسكو بتصحيح معلومات الوزيرة التي جاءت في هذا التوقيت تحديدا لمناقشة المسألة الأوكرانية.
وكان تعليق المسؤولين الروس آنذاك هو أنها زلة لسان ولا بأس في ذلك (جلّ من لا يسهو)، إلا أنها تعبّر عن غياب كامل لتصور القادة الأوروبيين ليس فحسب عن طبيعة الأزمة الروسية الأوكرانية، وأزمة دونباس، وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وقبلهما جمهورية القرم التي انضمت إلى روسيا عقب انقلاب عام 2014 في كييف، وإنما تعبر عن غياب حتى أدنى تصور عن جغرافيا وطبيعة وتاريخ المنطقة التي يدور الحديث عنها.
انتشرت حينها الأقاويل والنكات ورسومات الكاريكاتير، ناهيك عما امتلأت به وسائل التواصل الاجتماعي من تعليقات وتهكم وسخرية. على أي حال، نالت تراس جزاءها ولم تظل في رئاسة الوزارة أكثر من 50 يوما، ومضت لحال سبيلها.
أعادني ذلك الموقف أيضا إلى وزيرة خارجية أخرى هي وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، التي قالت في يناير عام 2023، خلال اجتماع للجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا في ستراسبورغ، إن الدول الأوروبية “تشن حربا ضد روسيا، وليس ضد بعضها البعض”. فتسأل نفسك عزيزي القارئ: ومن أعلن هذه الحرب؟ ومتى أعلنوها؟ وكيف بدأت الحرب العالمية الثالثة دون أن تنبس حتى وسيلة إعلام واحدة ببنت شفه؟ وكيف تأتّى لهذه الشابة الفطنة أن تعرف بتلك الحرب، دون أن يعرف بها بقية المسؤولين في أوروبا وفي روسيا وحول العالم؟
بالطبع اعتذرت بيربوك عن ذلك الخطأ في مقابلة لاحقة مع صحيفة “تاغ شبيل”، وقالت حينها مقولة حكيمة مأثورة: “فقط من لم يعش هو من لا يخطئ”.. حقا وصدقا!
وكما يقولون لدينا في الشرق الأوسط: “اللي يعيش يا ما يشوف”
أما في فبراير من هذا العام، فقد خرج علينا الشاب الوسيم صاحب الطلعة البهية رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون، في مؤتمر لدعم أوكرانيا بالعاصمة الفرنسية باريس، بدعوة لتشكيل تحالف يدعم أوكرانيا ويوفر لها الأسلحة متوسطة وبعيدة المدى، وقد بث المؤتمر صفحة قصر الإليزيه، حيث تذكر ماكرون ثمان تحالفات أوروبية سابقة لتسهيل توريد الأسلحة إلى كييف، تشمل أنظمة الدفاع الجوي والمدفعية والذخيرة. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل طرح الزعيم الفرنسي إمكانية “إرسال قوات برية من دول غربية إلى أوكرانيا”.
بالطبع خرج كل من المستشار الألماني ورئيسة الوزراء الإيطالية وغيرهما من قادة الاتحاد الأوروبي و”الناتو” ينفون مثل هذا العبث، وعاد “الناتو” ليعلن موقفه الرسمي بعدم الرغبة في الدخول بمواجهة مع روسيا، بينما لا ترغب روسيا، بكل تأكيد واستنادا لكلمات رئيسها ووزرائها وجميع مسؤوليها التي لا تتغير بتغير فصول السنة، في مواجهة “الناتو”، ولم تعلن ذلك يوما بأي شكل من الأشكال، حتى على الرغم من تورط “الناتو” في المواجهة مع روسيا بأيدي أوكرانيا وباستخدام معدات وأسلحة وذخيرة غربية، وتقديم كافة المعلومات والبيانات الاستخبارية وبيانات الأقمار الصناعية العسكرية الغربية إلى الجانب الأوكراني في هجمات وغارات مميتة.
يوم أمس، تم تعيين كايا كالاس، رئيسة وزراء إستونيا، في منصب المفوضة السامية لشؤون السياسة الخارجية والأمن محل جوزيب بوريل، وهي تشتهر قطعا بكراهيتها منقطعة النظير للروس ولكل ما هو روسي، فيما يبدو رغبة من الاتحاد الأوروبي للمضي قدما نحو التصعيد لا التسوية بشأن الأزمة الأوكرانية.
للحظة وبينما غفوت ليلة أمس تذكرت مسرحية “مدرسة المشاغبين” التي كتبها الكاتب المصري الراحل علي سالم وأخرجها للمسرح جلال الشرقاوي، وقام ببطولتها عادل إمام وسعيد صالح وسهير البابلي وغيرهم من نجوم المسرح المصري.
والمسرحية مقتبسة، ويا محاسن الصدف، عن الفيلم البريطاني “إلى المعلم مع الحب” (1967)، فيما يبدو مصادفة سعيدة، لعل السيد بوريس جونسون شاهد الفيلم وتقمص إحدى شخصياته، التي أطلق عليها علي سالم في نسخته المصرية “مرسي الزناتي”، وجسد شخصيته الكوميديان الشهير سعيد صالح، واشتهرت الجمل التي قالها بامتداد كل الأوطان التي تتحدث وتفهم العربية.. “مرسي الزناتي انهزم يا مينز (رجالة بالانجليزي)؟!”.. “ده انجليزي ده يا مرسي”.. وغيرها!
تدور أحداث الفيلم البريطاني عن مدرس أسود البشرة في بريطانيا فترة الستينيات (فتاة حديثة التخرج من قسم علم النفس قامت بدورها سهير البابلي لدى علي سالم) ، يوافق على وظيفة في مدرسة ثانوية بلندن تضم مجموعة من المراهقين، ويستخدم أساليب متنوعة لترويضهم. ينتهي الفيلم، والمسرحية بالمناسبة (إلا أن أحدا في وطننا العربي لا يتابع الجزء الثاني/الهادف من المسرحية)، نهاية سعيدة، حيث ينجح المدرس/المدرسة في ترويض المراهقين وتربيتهم وتعليمهم وإعادتهم إلى جادة الصواب، بينما يقعون جميعاً في حبه/حبها.
ترى هل ينجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتنجح العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا في إعادة “المشاغبين الأوروبيين” بكل مراهقاتهم السياسية وكل سذاجتهم وسطحيتهم إلى جادة الصواب، حتى نتجنب جميعا مزيدا من الخسائر والضحايا والتوترات والحروب حول العالم، لا سيما أن حديث الحرب العالمية الثالثة واستخدام وانتشار الأسلحة النووية، وعدد الرؤوس النووية، وحجم الدمار أصبح من الأحاديث اليومية المتداولة في جميع أنحاء العالم.
ربنا يستر..
محمد صالح
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب