لقد شهد العالم للتو واحدة من أكثر العمليات الاستخباراتية إثارة للدهشة في التاريخ. فقد زعمت طوفان من التقارير أن إسرائيل خربت أجهزة النداء التي يستخدمها حزب الله الإرهابي اللبناني وفجرتها في وقت واحد، مما أسفر عن مقتل العديد وإصابة المئات أو حتى الآلاف من عناصره.
وقد تعهد حزب الله بالانتقام، ولكن الطبيعة المعقدة للهجوم وتأثيراته على اتصالات حزب الله وقيادته وسيطرته ومعنوياته هزت المنظمة بشدة. وسرعان ما ضاعت حقيقة أن إسرائيل لم تعلن مسؤوليتها رسميا عن العملية وسط الاتهامات والتهديدات وعدم اليقين الذي أعقب العملية. وذلك لأنها تندرج تحت فئة خاصة وسرية من فن الحكم المعروف باسم العمل السري.
إن العمل السري هو عملية يفترض فيها أن يظل دور الراعي مخفيا أو غير معترف به. وبعبارة أخرى، يخلق هذا “إنكارا معقولا”، مما يسمح للحكومات بإنكار معرفتها بالعمليات السرية أو مشاركتها فيها. وعادة ما تستخدم الدول العمل السري في المواقف التي لا يمكنها فيها تحقيق أهدافها من خلال تدابير علنية أو حيث يكون خطر تحمل المسؤولية عن عملية ما كبيرا للغاية. والعمل السري ذو قيمة خاصة عندما تنفذ الدول عمليات يمكن اعتبارها أعمال حرب، مثل الهجمات القاتلة داخل الحدود السيادية لدولة أخرى.
وتأتي هذه العملية السرية الأخيرة في أعقاب عملية أخرى استهدفت زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران في يوليو. ووفقا للتقارير، قُتل هنية وحارسه الشخصي بعبوة ناسفة مخبأة في غرفته في دار ضيافة شديدة الحراسة يديرها الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. وعلى الفور اتجهت الشكوك نحو إسرائيل، التي لديها تاريخ طويل من عمليات القتل المستهدفة.
ووعدت إيران بالرد بعد هذا الاختراق الاستخباراتي، وتوقع الخبراء أن يتم الرد في غضون أيام ولكن إيران لم ترد حتى الآن. وألمحت إلى أن انتقامها سيكون “مختلفا” وليس بالضرورة العملية العسكرية الكبيرة التي يخشى الجميع أن تؤدي إلى حرب إقليمية.
كل هذا بعد أن زعمت إسرائيل أنها قتلت عددا من ضباط الحرس الثوري الإيراني، الذين كانوا متورطين في عمليات سرية، في ضربة ضد القنصلية الإيرانية في دمشق في أبريل. وردت إيران بإطلاق وابل هائل من الطائرات بدون طيار والصواريخ والقذائف على إسرائيل، والتي تسببت في أضرار طفيفة بفضل جهود الولايات المتحدة وإسرائيل والعديد من الدول العربية. وكان هذا أول هجوم عسكري مباشر في ما كان في السابق حربا خفية تخوضها إيران وإسرائيل منذ عقود.
وكان من المفارقات العجيبة أن ترد إيران مباشرة على هجوم إسرائيلي غير معترف به باستخدام القوة العسكرية العلنية. فإيران اكتسبت موقعها الحالي القوي في الشرق الأوسط عن طريق العمل السري من خلال وكلائها. ورغم أن إيران تكبدت خسائر في هيئة عمليات قتل مستهدفة أخرى وانفجارات غامضة استهدفت منشآتها النووية والأسلحة ونسبتها إلى إسرائيل، فإنها نجت من الآثار المدمرة للحرب مع إسرائيل على وجه التحديد لأنها استفادت من العمل السري.
في أعقاب العملية السرية الأخيرة ضد حزب الله، ينتظر العالم مرة أخرى في ترقب خوفا من اندلاع حرب إقليمية دامية. ومثل إيران، سوف يضطر حزب الله إلى دراسة خياراته بعناية إذا كان راغبا في تجنب حرب من شأنها بلا أدنى شك أن تدمره وتدمر لبنان. ولكن إلى جانب حقيقة مفادها أن الهجوم الصريح الكبير ردا على عمل سري من شأنه أن يتعارض مع مصالح إيران وحزب الله، فإنه يمثل أيضا خرقا خطيرا لعرف غير سار، وإن كان عمليا، في العلاقات الدولية.
كانت العمليات السرية سمة أساسية من سمات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وقد تراوح نطاق العمليات السرية من الدعاية والانتخابات إلى العمليات شبه العسكرية والاغتيالات. والأمر الحاسم هنا هو أن العمليات السرية سمحت للطرفين المتحاربين بالتنافس دون اللجوء إلى حرب كارثية. وهي توفر اليوم نفس بند الهروب.
بطبيعة الحال، هناك دائما مخاطر مرتبطة بالعمليات السرية. وكثيرا ما يستجيب أحد الجانبين للعمليات السرية التي يقوم بها الطرف الآخر بنفس الطريقة، مما يؤدي إلى تصعيد حرب الظل مثل تلك التي تدور حاليا في الشرق الأوسط. وعلاوة على ذلك، فإن التكنولوجيا والتسريبات والمعلومات الاستخباراتية مفتوحة المصدر جعلت من الصعب إخفاء يد الفاعل الذي يقوم بعملية سرية. وبالتالي أصبح من الأسهل توجيه اللوم. لكن اللوم ليس هو نفسه الإثبات أو الاعتراف بالمسؤولية، وبقدر ما قد يبدو هذا الدفاع ضعيفا، يتعين على العالم أن يزن العواقب المترتبة على التخلي عن معايير العمل السري.
في البداية، من المؤكد أن هذا ليس في مصلحة أمريكا. فقد تم ترسيخ العمل السري في القانون الأمريكي بعد عقود من النقاش وهو أداة لا غنى عنها في سياسة الأمن القومي الأمريكية. وقد أجرت حكومة الولايات المتحدة حملتها السرية الخاصة بالقتل المستهدف في بلدان ليست في حالة حرب معها.
وفي الواقع، كانت إحدى أشهر هذه العمليات وأقلها سرية هي مقتل أسامة بن لادن. وعلاوة على ذلك، لعبت الولايات المتحدة دورا في حرب الظل الجارية في الشرق الأوسط من خلال العمل مع إسرائيل لإجراء عمليات سرية تستهدف إيران وحزب الله. وبالنسبة لإدارة بايدن، فإن العمل السري الإسرائيلي، على الرغم من كونه استفزازيا، مفضل سياسيا على الحرب الإقليمية، التي عملت بلا كلل لمنعها.
وإذا نظرنا إلى ما هو أبعد من الشرق الأوسط، فسنجد أن هناك قضايا أمنية عالمية أعظم على المحك في مستقبل العمل السري. وحتى لو لم يقدم هذا العمل سوى “إنكار غير معقول” اليوم، فإن الدول في مختلف أنحاء العالم لا تزال تتبنى العمل السري والغموض الذي يخلقه لأنه يعقد كيفية رد فعل الجانب الآخر. والواقع أن الاستجابة العسكرية التي قد تؤدي إلى اندلاع حرب كبرى تشكل تطورا خطيرا بشكل خاص في العصر الناشئ من المنافسة بين القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين، والتي تجري أغلبها في الخفاء.
إن “الضربة الارتدادية” مصطلح قديم تستخدمه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للإشارة إلى العواقب غير المقصودة وغير المرغوبة المترتبة على العمل السري. وتشير التقارير الأخيرة إلى أن إسرائيل كانت تنتظر تفجير الأجهزة في حالة اندلاع حرب، ولكنها قررت شن العملية لأن هناك مؤشرات على أن حزب الله كان على وشك اكتشاف المؤامرة. وربما يشعر حزب الله الآن بأنه مجبر على الرد بطريقة تؤدي إلى الحرب الإقليمية التي تجنبتها كل الأطراف حتى الآن.
ويتكهن بعض المعلقين أيضا بأن العملية قد تكون مقدمة لحملة عسكرية إسرائيلية أكبر ضد حزب الله، والتي قد تكون حتمية على أي حال. واعتمادا على ما سيحدث بعد ذلك، فقد تعاني المنطقة من رد فعل عنيف ــ وبقية العالم معها.
المصدر: ناشيونال إنترست
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب