ويتخصص الكاتب بن أوليرينشو في الاستراتيجيات النووية والدراسات الاستراتيجية ببرنامج الأمن الدولي بجامعة ماكوراي سيدني، أسترالي
وجاء في المقال المنشور على موقع The National Interest:
إن الردع مستحيل إذا كانت القوات الهجومية الاستراتيجية الأمريكية غير قادرة على استهداف كامل نطاق القوات النووية المعادية والقوات ذات الأغراض العامة والصناعات الداعمة للحرب.
وبرغم النمو السريع والتحديث الذي تشهده القوات النووية الروسية والصينية، يعتقد كثيرون أن الولايات المتحدة لا ينبغي لها أن تنافس، بل ينبغي عليها أن تعمل على تقليص قدراتها النووية قدر الإمكان. ومن خلال تقليص قدراتنا وحرمان أنفسنا من أي خيار قابل للتطبيق باستثناء قصف المدن (كما تقول النظرية)، فإننا نثبت بذلك أننا لا ننوي أن نوجه الضربة الأولى، وبالتالي نقضي على الحافز الذي قد يدفع الخصم لتوجيه الضربة الأولى ضدنا. وعلاوة على ذلك، فإذا كان الخصم مقتنعا بأن أي استخدام للأسلحة النووية من شأنه أن يؤدي إلى قصف المدن (لأننا لا نترك لأنفسنا أي بديل آخر)، فلن يخاطر أبدا بحرب نووية في المقام الأول، وسيكتفي في أسوأ الأحوال بالحرب التقليدية، وهو ما نفضله كثيرا.
وأخيرا، فإن ضبط النفس من جانب الولايات المتحدة من شأنه أن يقضي على الحافز الذي قد يدفع روسيا والصين إلى زيادة قدراتهما النووية، الأمر الذي من شأنه أن يجنب الجميع سباق التسلح المكلّف، ويؤدي في أفضل الأحوال إلى النزع الكامل للأسلحة النووية. ويطلق على هذا الاقتراح “الحد الأدنى من الردع النووي”، وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، كان هذا هو السياسة الفعلية للإدارة الحالية، التي قللت بشكل منهجي من حجم التهديد النووي الروسي والصيني لإقناع الرأي العام بعدم ضرورة زيادة القوات الأمريكية. ورغم ذلك، فإن عددا من خارج الإدارة يدافعون بشدة عن “حد أدنى” أقل، وكلا المعسكرين مخطئ بشكل خطير، لهذه الأسباب:
1- قال هارولد براون وزير الدفاع في عهد الرئيس جيمي كارتر: “عندما نبني، يبنون، وعندما نخفض التسلح أيضا يبنون”. ولم تكن هذه الحقيقة أكثر وضوحا مما هي عليه اليوم. فبرغم ضبط النفس الشديد والمستمر من جانب الإدارة الأمريكية، انسحبت روسيا من معاهدة ستارت الجديدة*، وهي المعاهدة الوحيدة المتبقية للحد من الأسلحة والتي تحد من حجم قوة أي من القوى النووية. أما الصين، التي لم تكن طرفا في أي معاهدة للحد من الأسلحة بالأساس، فقد عملت وتعمل على توسيع قواتها النووية بوتيرة محمومة، ولا يوجد دليل تاريخي على أن القيود الأحادية الجانب المفروضة على القوات الأمريكية أدت على الإطلاق إلى تغييرات متبادلة في البرامج الروسية أو الصينية. وما إذ كان ذلك للأفضل أو للأسوأ، فقد فُتح صندوق الباندورا منذ ثمانين عاما، ولن يُغلق. ومنذ ذلك الحين، ظل سباق التسلح النووي دائرا بقوة، والخيار الوحيد الذي يواجه الولايات المتحدة الآن هو ما إذا كانت ستخوض السباق أم لا.
2- بعكس الاعتقاد السائد، لم تكن الغواصات الحاملة للصواريخ الباليستية “محصنة ضد الأخطار” قط. واليوم، ونظرا لضعف صوامع الصواريخ الأمريكية وإلغاء حالة التأهب في القاذفات الأمريكية، أصبحت الغواصات الحاملة للصواريخ الباليستية في البحر هي القوة النووية الأمريكية الوحيدة التي قد تنجو من الضربة الأولى للعدو. وخلال فترة الحرب الباردة، نشر الجانبان أصولا مضادة للغواصات لتتبع غواصات الصواريخ المعادية بنية تدميرها قبل أن تتلقى الأمر بإطلاق النيران في حالة الحرب. والولايات المتحدة، التي نجحت بشكل خاص في تعقب الغواصات السوفيتية الحاملة للصواريخ الباليستية دون أن تعلمها أبدا بأنها تتعرض للتعقب، لا بد وأن تكون أكثر وعيا من أن تفترض أن غواصاتها لا يمكن المساس بها أبدا. والواقع أن فكرة أن الولايات المتحدة قد تتمكن من تحقيق قوة صغيرة وبسيطة غير متغيرة لكنها آمنة بشكل دائم دون الحاجة إلى سباق تسلح تمثل مقامرة خطيرة إلى حد السخافة على أفضل تقدير، إن لم تكن تمثل أوهاما بعيدة المنال في أسوأ تقدير.
3- نعم، من الممكن الانتصار في الحرب النووية بشكل مطلق لا بشكل نسبي. لكن، من الممكن أيضا خسارة الحرب. والطريقة الأولى والأكثر فعالية للنصر هي شن هجوم مفاجئ يشل قدرة العدو على الرد. ونظرا للتقشف الشديد، الذي أعاق نظام القيادة والسيطرة في الولايات المتحدة، فإن خطر مثل هذا الهجوم أصبح شديدا بالفعل. والطريقة الثانية للنصر هي تدمير مجموعة محددة من الأهداف المحدودة (القوات النووية المعادية أو القوات العسكرية المعادية على الجبهة أو القواعد العسكرية الرئيسية خلف الجبهة أو الثلاثة معا على سبيل المثال) مع الاحتفاظ باحتياطي آمن لردع العدو عن إطلاق كل أسلحته ردا على ذلك. وباستخدام الأسلحة الحديثة الدقيقة ذات المرونة المتغيرة، من الممكن تماما استخدام الأسلحة النووية لتحقيق تأثير حاسم على الخطوط الأمامية دون وقوع خسائر بشرية أكثر مما قد نتوقعه من الاستخدام الواسع للمتفجرات شديدة القوة. والتدمير المفاجئ للبحرية الأمريكية بالكامل في موانئها يمكن أن يتحقق (على الأكثر) ببضعة آلاف من الضحايا المدنيين، فيما يتطلب الردع الأدنى أن ترد الولايات المتحدة على مثل هذا الهجوم بالانتحار الوطني. ولا معنى لذلك، فلماذا إذن يجب على أي شخص أن يصدقه؟
4- وحتى لو كنت تعتقد أن الغرض الوحيد من الأسلحة النووية هو الردع، أي أنك لا تهتم بما قد يحدث إذا ما استخدمت الأسلحة النووية بالفعل، فإن روسيا والصين لا تعتقدان أن الحد الأدنى من الردع كاف لتلبية احتياجاتهما الأمنية. فلماذا إذن ينبغي لهما أن يرتدعا بسياسة لا يقبلان بصلاحيتها أصلا؟
5- عندما انقلبت الأمور، لم تردع الولايات المتحدة نفسها بـ “الحد الأدنى من الردع”. ففي الخمسينيات وحتى أوائل الستينيات من القرن الماضي، عندما انعكس الوضع الراهن، وكانت روسيا تعاني من عيب كبير في الأسلحة النووية (وإن لم يكن بسبب افتقارها إلى المحاولة)، خططت الولايات المتحدة وقصدت إطلاق العنان لحرب شاملة فور اندلاع أي صراع، حتى ولو كان ذلك على حساب ملايين الضحايا المدنيين الأمريكيين، للتعويض عن الضعف النسبي للقوات البرية لحلف “الناتو” في أوروبا. وعلاوة على ذلك، فكّر رئيس الولايات المتحدة بجدية في شن حرب استباقية لتدمير الترسانة النووية الروسية قبل أن تكبر. وبمجرد أن اكتسبت روسيا التكافؤ النووي ثم التفوق المعتدل على الولايات المتحدة، تم ردعها عن شن حرب شاملة، ومن ثم خططت لإطلاق حرب نووية محدودة فقط للتعويض عن القوات العامة الأقل شأنا لحلف “الناتو”. ولم تعد الحرب الاستباقية حتى مطروحة على الطاولة. بعبارة أخرى، من الواضح أن “الحد الأدنى من الردع” فشل في ردع واشنطن، في حين نجح التكافؤ والتفوق النووي بشكل واضح.
6- إن الأسلحة النووية هي الأسلحة الوحيدة القادرة على إلحاق أضرار جسيمة بالولايات المتحدة. وعلى النقيض من كل القوى العظمى الأخرى، فإن الولايات المتحدة محصنة نسبيا ضد الغزو والاجتياح، ما لم يتم بطبيعة الحال القضاء على كل قواتها ذات الأغراض العامة بواسطة الأسلحة النووية. وعلى هذا فإن القوات الأمريكية ذات الأغراض العامة تدافع عن حلفاء الولايات المتحدة، في حين تدافع الأسلحة النووية عن الولايات المتحدة نفسها، فضلا عن كل الدول الأخرى. ألا يتعين إذن أن تتوخى الولايات المتحدة، من بين كل الدول، الحذر عندما يتعلق الأمر بحجم قواتها النووية؟
7- من المتوقع أن تبلغ تكلفة جميع البرامج النووية الأمريكية الحالية، بما في ذلك عمليات التحديث وتجاوز التكاليف وكل شيء، نحو 7.5% من إجمالي الإنفاق الدفاعي على مدى السنوات العشر المقبلة. وعلاوة على ذلك، فإن تحسين القدرات النووية الأمريكية لن يكلف شيئا تقريبا إلى حد كبير. فعندما تم توقيع معاهدة ستارت الجديدة، احتفظت الولايات المتحدة بعدد كبير من الرؤوس الحربية في المخازن “احترازا” لفشل المعاهدة. ومن شأن تحميل هذه الرؤوس الحربية أن يضاعف عدد الرؤوس الحربية المنشورة بتكلفة تبلغ نحو 100 مليون دولار أو ما يعادل 0.0001% من ميزانية الدفاع السنوية. وقد أنهت روسيا المعاهدة منذ ما يقرب من عامين، ومع ذلك لا تزال الرؤوس الحربية الأمريكية مخزنة حتى اليوم.
8- عندما وصل الأمر إلى هذا الحد، هددت إدارة بايدن ضمنا وبشكل غير مباشر بالرد على أي هجوم نووي روسيا على أوكرانيا، بـ “رد تقليدي هائل” على الأكثر. ومن المؤسف أن الضربات التقليدية “الهائلة” ليست ضخمة إلى هذا الحد عند مقارنتها بالأسلحة النووية، وهي حقيقة يمكن للشخص العادي أن يقدرها على الأرجح، لكنها تبدو بعيدة المنال عن قادتنا. وإذا تم تنفيذ مثل هذا الاقتراح السخيف على الإطلاق، فسوف يكتشف الأمريكيون بسرعة كبيرة ما يشعره الأمريكيون الأصليون في حروب الحدود. وكان هذا أمرا لا مفر منه. على سبيل المثال، إذا كانت الولايات المتحدة تمتلك أكثر من مائتي سلاح نووي تكتيكي لمواجهة الآلاف من الأسلحة الروسية، فيمكنها الرد على ضربة نووية روسية بتزويد أوكرانيا ببعضها والبقاء بعيدا عن الحريق الناتج تماما. وبدلا من ذلك، تم دفع الولايات المتحدة إلى الزاوية التي نسميها “الردع الأدنى” وهو بالضبط المكان الذي أرادت الإدارة أن تكون فيه الولايات المتحدة.
9- إن الردع الأدنى لا يحقق أي شيء. ورغم أن البعض أكثر صدقا من غيرهم في هذا الشأن، فإن كل من يؤيدون الردع الأدنى، باستثناء الأكثر تطرفا، يسعون إلى تزويد الولايات المتحدة بالقدرة على قتل أعداد كبيرة من المدنيين الأعداء. (ويسعى أكثر المناصرين تطرفا أيضا إلى حرمان الولايات المتحدة من هذه القدرة). وفي الأزمات، لا يوفر الحد الأدنى للدولة سوى خيار الاستسلام، أو الهزيمة في حرب نووية محدودة، أو الدمار في حرب شاملة. وإذا انطلق البالون بالفعل، فلن يتمكن من منع حلفاء الولايات المتحدة من الخضوع سيطرة الجيوش المسلحة نوويا، ولن يتمكن من منع الأسلحة النووية المعادية من قتل المدنيين الأصدقاء، ولن يتمكن حتى من تدمير الصناعات الحربية الداعمة للحرب. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن ثمن إلحاق أضرار جسيمة بالسكان المدنيين الأعداء هو قبول خسارة أعظم لنا. ومن عجيب المفارقات أن القوة النووية الأكبر والأقوى القادرة على مهاجمة النطاق بالكامل من الأهداف العسكرية قد تسعى إلى خيارات أخرى غير التدمير العشوائي للمناطق الحضرية، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى انخفاض الخسائر على الجانبين. ولا يمكننا ضمان هذه النتيجة، لكننا نستطيع ضمان أن الدمار الشامل أو الاستسلام هما النتيجتان الوحيدتان المحتملتان لاستخدام الحد الأدنى من قوة الردع في حرب نووية فعلية، لأن هذه هي النقطة الأساسية.
10- هناك طريقة أفضل: السلام من خلال القوة. فخلال الحرب الباردة لم يفكر أي أمريكي في موقع مسؤولية جدية في السماح للولايات المتحدة بأ، تكون متفوقة بشكل ساحق في الأسلحة النووية. بل إن الزعماء الأمريكيين من كلا الحزبين اختاروا الحفاظ على التكافؤ التقريبي على الأقل مع الخصم في جميع الأوقات. وقد نجحت هذه السياسة تجريبيا. وعلى الرغم من بعض الأزمات الشديدة وبرغم الدونية التقليدية، حافظت الولايات المتحدة على السلام لمدة 46 عاما دون التنازل عن أي جزء من الأراضي الحيوية للعدوان الشيوعي. وأفضل ما يستطيع أنصار الردع الأدنى أن يقولوه عن سياساتهم هو أنها نظرية غير مثبتة. أما نحن، في المعسكر المقابل، فلا نتفق معهم: نحن نقول إن الردع الأدنى ثبت خطأه. ونعتقد أن الهدف الصحيح للقوة الانتقامية في الحرب النووية هو نفس الهدف في أي نوع آخر من الحروب: إنهاء الحرب بأفضل الشروط الممكنة وبأقل التكاليف الممكنة. نحن بحاجة إلى أن نعد قواتنا الهجومية الاستراتيجية لكي تستهدف كامل نطاق القوات النووية المعادية، والقوات ذات الأغراض العامة، والصناعات الداعمة للحرب. كما ينبغي علينا أن نعيد تشكيل قوات نووية غير استراتيجية كافية لاستهداف القوات المعادية في الميدان. ونحن نرفض مفهوم استهداف السكان (أو “تدمير المدن”) وندعو عموما إلى تدمير الصناعات الداعمة للحرب المعادية فقط ردا على أفعال مماثلة من جانب العدو. وإذا فرضت علينا الحرب النووية، فإن القوة العسكرية المثلى هي القوة الأكثر ملاءمة للحد من الأضرار التي قد تلحق بمجتمعنا، وإنهاء الحرب بشروط مقبولة، والحصول على أفضل نتيجة ممكنة من موقف سيء. وهي أيضا القوة الأكثر ملاءمة لردع الحرب النووية عن الحدوث في المقام الأول، وهو هدفنا الأسمى. وبقدر ما يشكل السلام هدف الردع الأدنى، فإننا نتفق على الغايات: فنحن نزعم فقط أن الوسائل المقترحة لم تنجح قط.
المصدر: The National Interest
* بحلول عام 2018 أوفت روسيا بجميع التزاماتها بشأن معاهدة ستارت، وخفضت عدد أسلحتها الهجومية الاستراتيجية إلى 527 رأسا، بما يقل عن العدد المنصوص عليه في الاتفاقية بـ 130 رأسا، علاوة على التزامها بجميع بنود الاتفاقية، باعتراف الولايات المتحدة نفسها.
أما الولايات المتحدة فقد استبعدت بشكل غير قانوني، من جانب واحد، ودون التشاور مع روسيا، جزءا من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية الأمريكية، بذريعة “إعادة تجهيزها”، من بينها 56 قاذفة من طراز Trident-II SLBM و41 قاذفة ثقيلة من طراز B-52H، ورفضت الولايات المتحدة تضمين 4 قاذفات صواريخ باليستية عابرة للقارات، بدعوى تخصيصها للتدريب.
وفي عهد الرئيس دونالد ترامب عرضت روسيا على الولايات المتحدة تمديد مدة المعاهدة، دون شرط أو قيد، والبدء بتجميد عمل الترسانات النووية لحين إتمام الاتفاق بين الطرفين، وهو ما رفضته الإدارة الأمريكية، بحجة أن ذلك لا يصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي.
وفي يناير 2021، أعلن مكتب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، موافقته على المقترح الروسي، بتمديد معاهدة “ستارت -3″، والتفاوض مع روسيا حول التفاصيل، وبدأت اللقاءات بين الطرفين، وتم التوصل إلى اتفاق ينص على تمديدها مدة 5 سنوات إضافية، إلا أن بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا أوقف المباحثات بين الطرفين، حيث شنت الولايات المتحدة حرب المقاطعة والحصار والعداء والعقوبات ضد روسيا، وقادت حملة إعلامية شعواء تزعم “عدم امتثال روسيا لمعاهدة ستارت الجديدة”، و”انسحابها منها” مقتطعة تعليق روسيا للمعاهدة من سياق الأحداث السابقة واللاحقة، وهي وجهة النظر التي يتبناها كاتب المقال، لذا لزم التنويه.
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب