وجاء في المقال المنشور على موقع المجلة:
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، لا شك أنه يعتقد أن الصراع مع الصين يمكن تجنبه طالما تفاوضت الولايات المتحدة من موقع القوة.
إن تنصيب دونالد ترامب باعتباره الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة يعد بداية عصر جديد من المنافسة بين القوى العظمى.
شهدت واشنطن الأسبوع الماضي شعورا عابرا بالعودة إلى الحياة الطبيعية مع جلسات تأكيد مجلس الشيوخ للمرشحين الجدد وخطاب الوداع الذي ألقاه الرئيس جو بايدن. وحتى المسرحيات التي شهدتها جلسة الاستماع التي عقدها المرشح لمنصب وزير الدفاع بيت هيغسيث وتحذيرات بايدن من “المجمع الصناعي التكنولوجي” بدت مقيدة مقارنة بالعاصفة السياسية التي من المتوقع أن تتبع تنصيب ترامب ظهر الاثنين.
ففي خطاب تنصيبه الثاني، ومن خلال سلسلة من الأوامر التنفيذية، سيؤكد الرئيس ترامب بكل صرامة على حقه في شركة الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة جديدة.
ويمثل الاثنين أيضا بداية ما وصفته بكين بـ “نوع جديد من العلاقات بين القوى العظمى”. ورغم أن هذه ربما تكون الجولة الثانية من المواجهة بين ترامب وشي، إلا أن المكالمة الهاتفية التي أجراها الزعيمان لكسر الجمود، الجمعة الماضية، شكلت بداية المنافسة على الميزة الاستراتيجية بين الرجلين الأقوى في العالم.
فقد اتصل شي جين بينغ، بعد وقت قصير من إظهار البيانات الصينية الرسمية أن بكين حققت هدفها المتمثل في تحقيق نمو بنسبة 5% في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024، لإبلاغ الرئيس ترامب بأن يمنحه ماء وجهه من خلال إرسال نائب الرئيس هان تشنغ لحضور حفل التنصيب. وكان شي مشغولا بالتحضير للتحركات الانتقامية المحتملة في حالة فرض مزيد من الرسوم الجمركية وضوابط التصدير. لكن المكالمة الهاتفية كانت تهدف إلى استباق منحنى ما من المؤكد أنه سيكون مناقشات حية بين المعسكرات المتنافسة داخل إدارة ترامب.
ويتابع مراقبو منطقة المحيطين الهندي والهادئ عم ستسفر معركة شد الحبل بين صقور الدفاع المؤيدين لـ “السلام من خلال القوة” وأنصار شركات التكنولوجيا الكبرى والمشاركة التجارية.
وقد أكد المرشح لمنصب وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، في جلسة تأكيده للمنصب، أن الصين هي “الخصم الأقوى والأكثر خطورة الذي واجهته هذه الأمة على الإطلاق”، واتهم الصين بـ “الكذب والاختراق والغش في طريقها إلى وضع القوة العظمى”. كما شدد على الحاجة الملحة لإنجاز متأخرات مبيعات الأسلحة إلى تايوان وتقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين.
وأكد مستشار الأمن القومي مايكل والتز على الدعم الحزبي لمواجهة الصين خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وخلال فعالية “تسلم العصا” التي ينظمها معهد السلام، الفعالية التي تتم كل أربع سنوات. وأشاد بالتعاون الاستراتيجي لإدارة بايدن مع حلفاء منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال مبادرات صغيرة مثل “أوكوس” AUKUS، والرباعية، والاتفاقيات الثلاثية التي تشمل الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين. وتوفر هذه الشراكات الأساس اللازم للتغلب على الاضطرابات المحتملة في المستقبل.
لكن هذه الآراء الدفاعية القوية التقليدية ليست هي القناعات العميقة لوحيدة داخل الإدارة الجديدة. حيث تقف تايوان أمام مجموعة من التحديات الاقتصادية والدفاعية، تتراوح ما بين إنقاذ “تيك توك” وبين التهديد الوشيك المتمثل في توحيد تايوان قسرا مع الصين، فيما يركز عدد من المسؤولين الرئيسيين على تحقيق الرخاء. وكان النموذج الأكثر منطقية لهذه الرؤية دعوة المرشح لمنصب وزير الخزانة سكوت بيسنت إلى “عصر ذهبي اقتصادي جديد”. وتعطي خطته “3-3-3” الأولوية للهيمنة على الطاقة، ونمو الناتج المحلي الإجمالي، والإدارة المالية. وتشمل التدابير المقترحة خفض الضرائب، وتحرير سلاسل التوريد، وتشجيع الاستثمارات الجديدة، والاستفادة من التعريفات الجمركية، والتفاوض على صفقات تجارية أكثر ملاءمة، بما في ذلك مع الصين.
وبطبيعة الحال، يجلس الرئيس ترامب على رأس مجموعة من كبار المسؤولين ذوي وجهات النظر المتنوعة والمتباينة. ويأمل المتشددون والبراغماتيون على حد سواء في محاكاة صن تزو و”الفوز دون قتال”. على الأقل، هذا ما يبدو وفقا لاعتراف السيناتور روبيو في تأكيده على التعيين، بينما يعتقد الرئيس ترامب أن الصراع مع الصين يمكن تجنب، والتفاوض من موقع القوة هو المفتاح.
والنفوض المكتشف حديثا لمديري شركات التكنولوجيا الكبرى في إدارة ترامب هو تذكير بالنفوذ الإبداعي والصناعي للقطاع الخاص. وفي ظل تصاعد المنافسة مع الصين، لم تقف الشركات مكتوفة الأيدي خلال إدارة بايدن. على سبيل المثال، يعكس قرار شركة “آبل” بنقل بعض العمليات إلى الهند اتجاها نحو تقليل الاعتماد على الصين، تماما كما يشير قرار الصين تنفيذ هذه الخطوة إلى أن بكين ليست في عجلة من أمرها لرؤية نقل العمليات إلى الخارج. في هذه الأثناء، يخشى آخرون من فرض ترامب للرسوم الجمركية استجابة لدعوات الأصدقاء. حيث حذر السفير السنغافوري السابق لدى الولايات المتحدة تشان هينغ تشي من أن دول جنوب شرق آسيا مثل سنغافورة قد تصبح “أضرارا جانبية” إذا أقدمت الولايات المتحدة على فرض عقوبات جديدة.
تتميز أجندة الإدارة الأمريكية الجديدة بالطموح، بينما تشمل القضايا التي تسعى للتعامل معها إنهاء الحرب في أوكرانيا، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وربما عقد اجتماع آخر مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. ومع ذلك، فإن الاجتماع المتوقع بين ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ في وقت لاحق من هذا العام سوف يشكل لحظة حاسمة في هذا العصر الجديد من المنافسة بين القوى العظمى. والأحداث المؤدية إلى هذه القمة هي ما سيشكل المشهد الاستراتيجي.
وتشمل التحديات الاقتصادية الرئيسية التفاوض على صفقة لإنقاذ “تيك توك”، حتى مع فرار “لاجئيه” إلى تطبيقات صينية مثل شياوهونغشو (“الكتاب الأحمر الصغير” حرفيا). وتعتمد العلاقات الاقتصادية الثنائية على الوضوح فيما يتعلق بسياسات التجارة والتكنولوجيا، مثل نهج “الفناء الصغير والسياج العالي” الذي تبنته الإدارة السابقة. ومن المتوقع أن تهيمن المخاوف الاستراتيجية مثل ضوابط شرائح أشباه الموصلات وأمن البيانات على المناقشات في الأشهر المقبلة. ولكن من غير المرجح أن تتفوق ضوابط التصدير وحدها على التقدم الذي تحرزه الصين، تماما كما عجزت فرنسا في القرن الثامن عشر عن منع الثورة الصناعية في إنجلترا.
بالنسبة لترامب، فإن السؤال الملح هو كيفية التعامل مع صفقة تجارية ثانية، حيث يتميز الاقتصاد الصيني ذو السرعتين بالاستهلاك والبناء البطيئين لكنه يتميز أيضا بالإنتاج الصناعي والصادرات السريعة. وكان شي جين بينغ يستعد لمواجهة التعريفات الجمركية بدليل بكين للقيود على المعادن الحيوية واللوائح وتدابير الاكتفاء الذاتي. ولكن، في كثير من النواحي، فإن تفاصيل الصفقة أقل أهمية من المنافسة الشاملة على قواعد الطريق بشكل عام.
يقدم ديفيد ريني من مجلة “الإيكونوميست” نظرة ثاقبة لطموحات الصين، وبعد أن أمضى السنوات الست الماضية في البلاد، لاحظ أن الصين تسعى إلى مراجعة النظام الذي قادته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وتضع نفسها مدافعة عن الوضع الراهن ضد سياسا “أمريكا أولا”. يهدف شي جين بينغ إلى استبدال القيم الديمقراطية العالمية بـ “الأمن العالمي”، وتعزيز نظام عالمي موات للسلطوية التكنولوجية، وهي النقطة التي كررها بايدن في تحذيره من “المجمع الصناعي التكنولوجي” في خطاب وداعه.
إن الترابط الاقتصادي يقيد الدولتين. فترامب يخاطر بردود فعل عنيفة بسبب الرسوم الجمركية. وشي يعتمد على الأسواق المتقدمة لدعم استراتيجية الصين القائمة على التصدير، في حين يسعى إلى تحقيق الاعتماد على الذات.
وسوف تشتد المنافسة في الجنوب العالمي، لا سيما بين دول مجموعة “بريكس”. فقد وسعت الصين نفوذها خارج آسيا إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومؤخرا أهدى شي جين بينغ للرئيس السريلانكي أنورا كومارا ديساناياكي مصفاة نفطية متطورة بقيمة 3.7 مليار دولار مجاورة لميناء هامبانتوتا، وهي في حد ذاتها نتاج سخاء مبادرة الحزام والطريق. كما انخرط شي مؤخرا مع الأمين العام لفيتنام في حين روجت روسيا لإدراج فيتنام في مجموعة “بريكس”. وتشير كل من هذه الخطوات وعدد من الخطوات الأخرى، التي اتخذها شي جين بينغ، إلى أن الصين تأمل في التفوق على حملة الضغط التي يشنها ترامب من خلال إقامة علاقات جديدة في الأسواق الناشئة.
كما تعمل الصين على تعزيز علاقاتها مع أوروبا والاقتصادات الآسيوية المتقدمة. وإذا بدا أن خطة الرئيس ترامب لشراء جزيرة غرينلاند قد أزعجت حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، فإن الصين مستعدة للتدخل واستغلال مثل هذه التوترات. وكما يحذر الباحث الصيني وانغ جيسي: “الآن حان دور الولايات المتحدة لارتكاب الأخطاء”.
إن جدول الأعمال المتعلق بالمنافسة في مجال الدفاع والأمن محفوف بالتوترات بشكل أكبر. ففي عهد ترامب، سوف تواجه القاعدة الصناعية الدفاعية والقوات المسلحة الأمريكية تحولا جذريا وتركز على النتائج الاستراتيجية بدلا من التجريب الاجتماعي. ويبدو التحول الحقيقي نحو آسيا مرجحا، الأمر الذي يتطلب تقاسما أكبر للتكاليف مع الحلفاء وتوسيع الجهود التعاونية في الفضاء، ونقاط الاختناق العالمية والفضاء الإلكتروني.
لكن بؤر التوتر الدفاعية الرئيسية في المنطقة، تايوان وبحر الصين الجنوبي، جاهزة للمواجهة. وتواجه تايوان ضغوطا نفسية متزايدة مع الكشف عن تحديث الجيش الصيني والحرب السردية. على سبيل المثال، اتهم سفير الصين في أستراليا نائب الرئيس التايواني لاي تيشنغ تي بالسعي إلى الاستقلال، ما يوضح أن الضغوط النفسية سوف تتزايد قطعا في الأشهر المقبلة. وفي الوقت نفسه، يشير كشف الصين عن أرصفة الجسور المحمولة والجديدة والمنصات البرمائية الكبيرة من طراز 076 القادرة على دمج الأنظمة غير المأهولة إلى تقدم مطرد نحو قدرات الغزو.
وسوف يشهد بحر الصين الجنوبي أيضا مزيدا من الاضطرابات. فقد اشتكت الفلبين من أن تصعيد الصين لعملياتها في المنطقة الرمادية، مثل نشر سفن خفر السواحل الضخمة لتحدي مطالباتها الإقليمية، يدفع مانيلا إلى “الوقوف في موقف محرج”.
ومن المرجح كذلك أن تنطوي المنافسة بين القوى العظمى على صراعات متزامنة وتعاون متزايد بين القوى الرجعية مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران. وكما قال جون راتكليف، خلال جلسة تأكيد تعيينه مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، فإن “التنسيق المتزايد بين منافسي الولايات المتحدة” يشكل تحديا أمنيا خطيرا لم تواجهه الولايات المتحدة من قبل، وسيصبح التخطيط أكثر تعقيدا.
لقد أعطى الرئيس ترامب الأولوية للصين خلال فترته الأولى. وبعد ثمان سنوات، بدأ عصر جديد من المنافسة بين القوى العظمى. والسؤال الوحيد الآن هو: ما هو المسار الذي ستتبعه هذه المنافسة.
المصدر: ذا ناشيونال إنترست
الدكتور باتريك كرونين هو رئيس قسم الأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في معهد هدسون ويدرس في معهد كارنيغي ميلون للأمن والتكنولوجيا بجامعة كارنيغي ميلون.
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب